يقول الحق جل جلاله : (إِنَّهُمْ) أي : المشركين (كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، هو أعم من إذا قيل لهم : قولوها ، أو : ذكرت بمحضرهم ، (يَسْتَكْبِرُونَ) أي : يتعاظمون عن قولها ، أي : كانوا فى الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها ، وأبوا إلا الشرك ، (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ، يعنون نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم ، (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) ؛ لكونه مصدّقا لما بين يديه من الرسل. وهو ردّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان ، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) مقابل لقولهم : «شاعر» ؛ لأن الشاعر فى الغالب كذوب ، وتصديق المرسلين فى مقابلة مجنون ؛ لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) بالإشراك وتكذيب الرسول (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ؛ إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان ، فعذبتم ، على الكفر والتكذيب ، وخلدتم ، على نيتكم الدوام عليه.
الإشارة : ينبغى للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد ، وهى «لا إله إلا الله» أن يخشع قلبه ، وتهتز جوارحه ، فرحا بها ، ويخضع لمن جاء بها ، ودلّ عليها ، حتى يدخله فى بحار معانيها ، وهو التوحيد الخاص ، أعنى : توحيد أهل العيان ، وهم خلفاء الرسول صلىاللهعليهوسلم فى التربية النبوية. قال القشيري : (.. كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ..) إلخ. احتجابهم بقلوبهم أوقعهم فى وهدة عذابهم ، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته ، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته ؛ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ..) (١) وقال : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ..) (٢) ، فمن عرف الله فلا لذة له إلا فى طاعته وعبوديته ، قال قائلهم :
ويظهر فى الورى عزّ الموالي |
|
فيلزمنى له ذلّ العبيد |
ولمّا لم يحتشموا من وصفه ـ سبحانه ـ بما لا يليق بجلاله ، لم يبالوا بها أطلقوا من المثالب فى جانب أنبيائه. ه.
ثم استثنى المخلصين ، فقال :
(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠))
__________________
(١) من الآية ٢٠٦ من سورة الأعراف.
(٢) من الآية ١٧٣ من سورة النساء.