(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي : إنهم يخرجون من مقارهم فى الجحيم ـ وهو الدركات التي أسكنوها ـ إلى شجرة الزقوم ، فيأكلون منها إلى أن يتملّوا. ويشربون بعد ذلك ، ثم يرجعون إلى دركاتهم ، كما تورد الإبل ، ثم ترد إلى وطنها. ومعنى التراخي فى ذلك ظاهر.
ثم ذكر سبب عذابهم ، فقال : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) ، علّل استحقاقهم للوقوع فى تلك الشدائد بتقليد آبائهم فى الضلال ، وترك اتباع الدليل. والإهراع : الإسراع الشديد. كأنهم يزعجون ويحثّون حثّا. وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى اتباعهم من غير توقف ولا نظر. (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) ؛ قبل قومك قريش (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) ، يعنى الأمم الماضية ، بالتقليد وترك النظر. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) ؛ أنبياء ، حذّروهم العواقب. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الذين أنذروا ، وحذّروا ، فقد أهلكوا جميعا ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي : إلا الذين آمنوا ، وأخلصوا دينهم لله ، أو : أخلصهم الله لدينه ، على القراءتين (١).
الإشارة : إذا قامت القيامة انحاز الجمال كله إلى أهل الإيمان والإحسان ، وانحاز الجلال كله إلى أهل الكفر والعصيان ، فيرى المؤمن من جماله تعالى وبره وإحسانه ما لا تفى به العبارة ، ويرى الكافر من جلاله تعالى وقهره ما لا يكيف. وأما فى دار الدنيا فالجمال والجلال يجريان على كل أحد ، مؤمنا أو كافرا ، كان من الخاصة أو العامة ، غير أن الخاصة يزيدون إلى الله تعالى فى الجلال والجمال ؛ لمعرفتهم فى الحالتين. وأما العامة فلا يزيدون إلا بالجمال ؛ لإنكارهم فى الجلال. والمراد بالجلال : كل ما يقهر النفس ويذلها. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أول المنذرين من أولى العزم ، فقال :
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ نادانا) أي : دعانا (نُوحٌ) ، حين أيس من قومه بقوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (٢) أو : دعانا ؛ لننجيه من الغرق ، (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي : فأجبناه أحسن الإجابة ، ونصرناه على أعدائه ،
__________________
(١) فى «المخلصين» ، وقد قرأ بفتح اللام : نافع وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر. وقرأ الباقون بالكسر.
(٢) الآية ١٠ من سورة القمر.