(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي : الثناء الحسن فى الأمم الآخرين ، (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) ، سبق بيانه فى نوح (١) (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، لم يقل : إنا كذلك ، هنا ، كما فى غيره ؛ لأنه قد سبق فى القصة ، فاكتفى هنا عن ذكره. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) ، فيه تنويه بشأن الإيمان ؛ لأنه أساس لكل ما يبنى عليه من معرفة وإحسان.
الإشارة : قال إنى ذاهب إلى ربى بالتوجه والعزم ، سيهدين إلى صريح معرفته ، ومكافحة رؤيته ، ودوام شهوده. فالذهاب إليه يفضى إلى الذهاب فيه ، وهو غيبة العبد عن شهود نفسه ، بشهود محبوبه ، وهذه الحالة متبوعة للامتحان ؛ إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه ، فكلما علا المقام عظم الامتحان. فامتحن الخليل بأربع محن : تسليم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، ورمى آخر عند البيت فى يد الرحمن ، (٢) وذهاب زوجه للجبّار ، فوقع اللطف فى الجميع ، واصطفى خليلا للرحمن. وأيضا : الحق غيور ، لا يحب أن يرى فى قلب خليله أو وليّه شيئا سواه ، فأمر بذبح ولده ؛ لإخراجه من قلبه ، كما فرّق بين يوسف ووالده ، وامتحن حبيبه صلىاللهعليهوسلم فى عائشة صدّيقته ، وهذه عادة الله مع أصفيائه.
قال القشيري : يقال فى القصة : أنه رآه راكبا على فرس أشهب ، فاستحسنه ، ونظر إليه بقلبه ، فأمر بذبحه ، فلما أخرجه من قلبه ، واستسلم لذبحه ، ظهر الفداء. وقيل له : كان المقصود من هذا فراغ قلبك منه ، لا ذبحه. ويقال فى القصة : أنه أمر أباه أن يشدّ يديه ورجليه ؛ لئلا يضطرب إذا مسّه ألم الذبح ، فيعاتب ، ثم لمّا همّ بذبحه قال : افتح القيد عنى ، فإنى لا أتحرك ، فإنى أخشى أن أعاتب ، فيقول : أمشدود اليد جئتنى؟ وأنشدوا :
ولو بيد الحبيب سقيت سمّا |
|
لكان السّمّ من يده يطيب |
قيل : إن الولد كان أشدّ بلاء ، لأنه وجد الذبح من يد أبيه ، ولم يتعوّد منه إلا التربية بالجميل ، فكان البلاء منها (٣) أشد ؛ إذ لم يتوقعه منها. وقيل : بل إبراهيم أشد بلاء ؛ لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ، ويعيش بعده ، ولم يأت الولد بالدعوى ، بل قال : إن شاء الله ، فتأدب بلفظ الاستثناء. ثم قال : ويقال : إنّ الله ستر عليهما ما علم أنه أريد منهما فى حال البلاء ، وإنما كشف لهما بعد مضىّ وقت المحنة ، لئلا يبطل معنى الابتلاء ، وهو توجع القلب
__________________
(١) راجع تفسير الآية ٧٩ من هذه السورة.
(٢) هذا على أن الذبيح هو إسحاق ، وقد مر آنفا أن الصحيح أنه سيدنا إسماعيل عليهالسلام.
(٣) أي : من اليد.