الدار ؛ فالترقى فيها من باب الكرم والإثابة على ما هنا. وأيضا : البشرية للآدمى بمنزلة الطلاء للمرآة ، فالمرآة بلا طلاء لا ترى فيها صور الأشياء ، كذلك الملائكة لا بشرية لهم ، فلا تنكشف لهم الحقائق كما تنكشف للآدمى ، ولو كشف لهم ما انكشف له لذابوا. والله أعلم.
قال فى القوت : لعمرى إن سائر الملائكة لا ينتقلون فى المقامات كترقى المؤمنين ، إنما لكلّ مقام معلوم ، لا ينتقل إلى غيره ، إلا أنهم يمدّون من ذلك بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة ، بأكثر ما يزداد جملة البشر ه. قلت : ومعنى كلامه : أن الملائكة يمدون فى مقامهم بقوة لا يستطيعها البشر ، فمن كان فى مقام الهيبة دام فيها ، وقوى عليها ، ومن كان فى مقام الخدمة ، دام عليها ، وقوى عليها ، قوة لا يطيقها البشر ، ولا يترقى عنها ، بخلاف الآدمي ، فليست فيه هذه القوة ، لكنه يترقى من مقام إلى مقام ، ويترقى فى المعارف على الدوام.
ثم بسط صاحب القوت فى ذلك الكلام فى فضائل الصلاة ، وأنها جامعة لما فرق على الملائكة من الأعمال والأذكار. قال : وبذلك فضل المؤمنون الملائكة ، وكذلك فضل الموقن أيضا فى مقامات اليقين من أعمال القلوب ، على الأملاك بالتنقيل بأن جمعت فيه ، ورفع فيها مقامات ، والملائكة لا ينقلون ، بل كل ملك موقوف فى مقام معلوم ، لا ينقل منه إلى غيره ، وإنما له المزيد من المقام الواحد على قدر قواه ، وجمع ذلك كله فى قلب المؤمن ، ونقل فيه مقامات. وكان له من كل مقام مشاهدات. ه.
قال المحشى الفاسى : وفيه نظر ، مع تلقيهم ضروب الوحى الجامع للمقامات ، فكيف لا يمكّنهم تحققا بها على اختلافها؟ ، ولو كان كما قال ؛ لكان كل ملك إنما يتلقى من الوحى ما يناسبه ، ويختص بمقامه ، وليس الأمر كذلك ضرورة. ه. قلت : وفى نظره نظر ؛ إذ لا يلزم من تلقيهم للوحى على أنواعه أن يترقوا به ؛ إذ ليس الترقي هو مجرد العلم ، بل الترقي إنما هو أذواق ووجدان ، وكشوفات بعد حصول العلم. وقد يتحقق العلم بالمقام ، ولا ينتقل عنه إلى غيره ، بل قد يعلمه ولا يذوقه ، كما هو محقق عند أهل الفن ، ثم قال : والحق ما نبّه عليه البيضاوي. وكلام القوت ينظر لقول الحكماء ، ومثله كلام الإحياء. ه.
ونص البيضاوي فى قوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (١) الآية : إنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة ، والحكماء منعوا ذلك فى الطبقات العليا منهم ، وحملوا عليه قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ). ه. قلت : ترقى الآدمي هو انتقاله من مقام إلى مقام ، حتى يكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات ، ثم لا يزال يترقى
__________________
(١) الآية ٣٣ من سورة البقرة.