يجرى أيضا فى القول الذي يقول : إنهم قسم ثالث ، مجردات ، ليسوا بجوهر ولا عرض ، كالأرواح ، فإنها على تقدير كونها كذلك ، جائزة ؛ لقبولها التفاوت فى العلوم والمعارف وغير ذلك. وذلك قاض بالافتقار ، والتخصيص لما هى عليه ، المستلزم للحدوث. قاله فى الحاشية.
قلت : القول بأن الملائكة مجردات عن المادة ، هو قول الفلاسفة ، ونحى إليه الغزالي. وهو مناقض للقرآن والحديث ؛ لأن كونهم صفوفا قائمين ، أو ساجدين ، أو سائرين ، يقتضى تشكيلهم وتحييزهم ، فيستلزم المادة ؛ إلا أنها نورانية لطيفة ، وكذلك الأرواح ، على ما فى الأحاديث ، فإنها متحيزة على أشكال لطيفة. والله أعلم.
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) ؛ نصفّ أقدامنا فى الصلاة ، أو : نصفّ حول العرش داعين للمؤمنين ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) ؛ المنزّهون الله تعالى عما نسبته إليه الكفرة ، من الولد ، وغير ذلك من الأباطيل المذكورة. أو : المشتغلون بالتسبيح على الدوام ، أو : المصلّون. ويحتمل أن يكون هذا وما قبله ؛ من قوله : (سُبْحانَ اللهِ ....) إلخ ، من كلام الملائكة ، حتى يتصل بذكرهم (١) ، كأنه قيل : ولقد علم الملائكة أن المشركين محضرون للعذاب على افترائهم على الله فيما نسبوا إليه ، وقالوا : سبحان الله ، ونزّهوه عن ذلك ، واستثنوا عباد الله المخلصين ، وبرّؤوهم من ذلك ، وقالوا للكفرة : وإذا صح ذلك ؛ فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدا من خلقه ، وتضلّوه ، إلّا من كان من أهل النار ، وكيف نكون مناسبين لرب العزة! وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه ، لكلّ منا مقام من الطاعة معلوم ، لا يستطيع أن يزلّ عنه ، ونحن نصفّ أقدامنا لعبادته ، مسبّحين بحمده ، كما يجب على العباد. ولعل قولهم : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) إشارة إلى تفاوتهم فى درجات القرب ومقامات اليقين. وقولهم : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) إشارة إلى تفاوتهم فى الطاعات والعبادات ، وهم طبقات ؛ منهم هائمون مستغرقون فى الشهود ، ومنهم مستغرقون فى مقام الهيبة والمراقبة ، ومنهم مستغرقون فى الخدمة والعبادة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : مادة الآدمي أكمل من مادة الملائكة ، فإذا اتصل العبد بشيخ كامل ، واعتنى بتصفية روحه وسره ، طوى نوره الوجود بأسره ، ولا يزال يترقى فى معاريج أسرار التوحيد والتفريد ، وتتوارد عليه الكشوفات ، والعلوم ، والأسرار ، فى هذه الدار الفانية ، وفى تلك الدار الباقية ، أبدا سرمدا ، بخلاف الملائكة ، فإنّ لكل واحد مقاما معلوما لايتعداه ، كما أخبر تعالى.
وسرّ ذلك : أن الآدمي فيه بشرية وروحانية ، فكلما جاهد نفسه ، وغاب عن حس بشريته ؛ ترقى فى معارج التوحيد ، والمجاهدة لا تنقطع عنه فى هذا الدار ؛ لأنها دار أكدار ، فلا ينقطع عنه الترقي فى المشاهدة ، وأما فى تلك
__________________
(١) فى قوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ).