(وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) : عطف على (آمنوا) ، داخل فى حيز الصلة ، أي : إنما الكاملون فى الإيمان : الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم ، وأطاعوه فى جميع الأحكام والأحوال المطردة الوقوع ، والأحوال الواقعة بحسب الاتفاق ، كما إذا كانوا معه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على أمر مهم يجب الاجتماع فى شأنه ؛ كالجمعة ، والأعياد ، والجهاد ، وتدريب الحروب ، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع ، (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، ويأذن لهم ، ولو كان الأمر يقوم بدونهم ، ليتميز المخلص من المنافق ، فإن ديدنه التسلل للفرار ، ولتعظيم الجرم ؛ لما فى الذهاب بغير إذنه صلىاللهعليهوسلم من الخيانة.
ولمّا أراد الحقّ تعالى أن يريهم عظم الجناية فى ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم بغير إذنه ، إذا كانوا معه على أمر جامع ، جعل ترك ذهابهم والصبر معه ، حتى يأذن لهم : ثالث الإيمان ، وجعل الإيمان برسوله كالسبب له ، والبساط لذكره ، وذلك مع تصدير الجملة ب «إنما ، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا ؛ حيث أعاده على أسلوب آخر ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، فقضى بأن المستأذنين هم المؤمنون خاصة. وفى «أولئك» : من تفخيم المستأذنين ، ما لا يخفى ، (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ) فى الانصراف (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي : أمرهم المهم وخطبهم الملم. (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) لما علمت فى ذلك من مصلحة وحكمة.
وهذا بيان لما هو وظيفته صلىاللهعليهوسلم فى هذا الباب ، إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين ، وأن الإذن منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليس بأمر محتوم ، بل هو مفوّض إلى رأيه عليه الصلاة والسلام ، وفيه من رفع شأنه صلىاللهعليهوسلم ما لا يخفى. والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : بعد ما تحقق أن الكاملين فى الإيمان هم المستأذنون.
(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) ، فإن الاستئذان ، وإن كان لعذر ، فقد لا يخلو من شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة ، ففيه دليل على أن الصبر وترك الاستئذان أفضل. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ مبالغ فى غفران فرطات العباد ، وفى إفاضة آثار الرحمة عليهم.
وما ذكره الحق تعالى فى شأن الصحابة مع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى شأن الاستئذان ينبغى أن يكون كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم فى العلم والدين ، لا يتفرقون عنهم إلا بإذن. والآية نزلت فى الخندق ، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان ، فنزلت (١). وبقي حكمها عاما إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ١١٠) لابن إسحاق وابن المنذر ، والبيهقي فى الدلائل ، عن عروة ومحمد بن كعب القرظي.