قُصُوراً) ؛ وغرفا فى الدنيا ، كقصور الآخرة ، لكن لم يشأ ذلك ؛ لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه تعالى لخواص أحبابه فى الآخرة ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان.
وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين ، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز ؛ لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية ، وإنما الذي له وجه فى الجملة هو الاقتراح الأخير ؛ فإنه غير مناف للحكمة بالكلية ، فإن بعض الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ قد أوتوا مع النبوة ملكا عظيما ، لكنه نادر.
ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة ، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى ، فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة. ويحتمل أن يكون متصلا بما قبله ، كأنه قال : بل كذبوا بالساعة ، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك فى الآخرة ، وهم لا يؤمنون بها؟ ثم تخلص إلى وبال من كذّب بها ، فقال : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) أي : وهيأنا للمكذبين بها نارا شديدة الإسعار ، أي : الاشتعال. وضع الموصول موضع ضمير «هم» ، أو : لكل من كذب بها كائنا من كان ، ويدخلون هم فى زمرتهم دخولا أوليا. ووضع الساعة موضع ضميرها ؛ للمبالغة فى التشنيع.
(إِذا رَأَتْهُمْ) أي : النار ، أي : قابلتهم (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ؛ بأن كانت منهم بمرأى للناظرين فى البعد ، كقوله صلىاللهعليهوسلم فى شأن المؤمن والكافر : «لا تترآءى نارهما» (١) ، أي : لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى. (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) أي : سمعوا صوت غليانها. شبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير ، وهو صوت من جوفه. ولا يبعد أن يخلق الله فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر. وقيل : إن ذلك من زبانيتها ، نسب إليها ، وهو بعيد.
(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها) ؛ من النار (مَكاناً ضَيِّقاً) أي : فى مكان ضيق ؛ لأن الكرب يعظم مع الضيق ، كما أن الروح يعظم مع السعة ، وهو السر فى وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض. وعن ابن عباس وابن عمر ـ رضى الله عنهما : (تضيق جهنم عليهم ، كما يضيق الزجّ (٢) على الرمح). وسئل النبي صلىاللهعليهوسلم عن ذلك فقال : «والذي نفسى بيده إنهم ليستكرهون فى النار كما يستكره الوتد فى الحائط». حال كونهم (مُقَرَّنِينَ) أي : مسلسلين ، أي : مقرونين فى السلاسل ، قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى الأغلال. أو : يقرن مع كل كافر شيطانه فى سلسلة ، وفى أرجلهم الأصفاد. فإذا ألقوا فى الضيق ، على هذا الوصف ، (دَعَوْا هُنالِكَ) أي : فى ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة ، (ثُبُوراً) أي : هلاكا ، بأن يقولوا : وا ثبوراه ؛ هذا حينك فتعال ، فيتمنون الهلاك ليستريحوا ، فيقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي : لا تدعوا بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة ،
__________________
(١) سبق تخريجه عند تفسير الآية ٥٢ من سورة المائدة.
(٢) الزّجّ : الحديدة التي تركب فى أسفل الرمح ... اللسان (رجج ، ٣ / ١٨١١).