ودعاء واحدا ، بل ادعوا دعاء متعددا بأدعية كثيرة ، فإن ما أنتم عليه من العذاب ، لغاية شدته وطول مدته ، مستوجب لتكرر الدعاء فى كل أوان. وهو يدل على فظاعة العذاب وهو له.
وأما ما قيل من أن المعنى : إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا ، وإنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان ، كل نوع منها ثبور ؛ لشدته وفظاعته ، أو : لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لها ، فلا يلائم المقام. انظر أبا السعود. وعن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أول من يكسى حلّة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ، ويسحبها من خلفه ، وذريته من بعده ، وهو يقول : يا ثبوراه ، وهم يجاوبونه : يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار ، فيقال لهم : لا تدعوا ثبورا واحدا ..» (١).
(قُلْ) لهم يا محمد ؛ تقريعا لهم وتهكما بهم ، وتحسرا على ما فاتهم : (أَذلِكَ خَيْرٌ) ، والإشارة إلى السعير ، باعتبار اتصافها بما فصّل من الأحوال الهائلة ، وما فيه من معنى البعد ؛ لكونها فى الغاية القاصية من الهول والفظاعة. أي : قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير ، التي أعدت لمن كذب بالساعة ، وشأنها كيت وكيت ؛ خير (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي : وعدها الله المتقين؟ وإنما قال : «أذلك خير» ، ولا خير فى النار ؛ تهكما بهم ، كما تقدم ، وإضافة الجنة إلى الخلد ؛ للمدح ، وقيل : للتمييز عن جنات الدنيا. والمراد بالمتقين : المتصفون بمطلق التقوى ، لا بغايتها. (كانَتْ) تلك الجنة (لَهُمْ) فى علم الله تعالى ، أو فى اللوح ، (جَزاءً) على أعمالهم ، (وَمَصِيراً) يصيرون إليه بعد الموت.
(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) من فنون الملاذ والمشتهيات ، وأنواع النعيم والخيرات ، كقوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (٢) ، ولعل كل فريق منهم يقنع بما أتيح له من درجات النعيم ، ولا تمتد أعناق همهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية. فلا يلزم الحرمان ، ولا تساوى أهل الجنان. حال كونهم (خالِدِينَ) لا يفنون ، ولا يفنى ما هم فيه ، (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أي : موعودا حقيقا بأن يسأل ويطلب ؛ لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون ، أو : مسئولا لا يسأله الناس فى دعائهم ، بقولهم : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (٣) أو : تسأله الملائكة بقولهم : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) (٤) ، وما فى «على» من معنى الوجوب ، لامتناع الخلف فى وعده تعالى ، فكأنه أوجبه على نفسه ؛ تفضلا وإحسانا. وفى التعرض لعنوان الربوبية ؛ مع الإضافة إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم ؛ من تشريفه والإشعار بأنه صلىاللهعليهوسلم هو أول الفائزين بمغانم هذا الوعد الكريم ما لا يخفى. قاله أبو السعود.
__________________
(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٣ / ١٥٢) ، والطبري (١٨ / ١٨٨) ، والحديث صححه الهيثمي فى المجمع (١٠ / ٣٩٢).
(٢) من الآية ٧١ من سورة الزخرف.
(٣) من الآية ١٩٤ من سورة آل عمران.
(٤) من الآية ٨ من سورة غافر.