يأكلون (الطَّعامَ) ، مفتقرون إليه فى قيام بنيتهم ، (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) فى طلب حوائجهم ، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك ، (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي : محنة ، وهو كالتعليل لما قبله ، أي : إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة ، وفقراء من المال ، يمشون فى الأسواق لطلب المعاش ؛ ابتلاء ، وفتنة ، واختبارا لمن تبعهم ، من غير طمع ، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم ، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض ؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى ، فلا يخالفون ، لفعلت ، ولكن قدرت أن أبتلى العباد بكم وأبتليكم بهم (١). ه.
فالحكمة فى فقر الرسل من المال : تحقيق الإخلاص لمن تبعهم ، وإظهار المزية لهم ؛ حيث تبعوهم بلا حرف. قال النسفي : أو جعلناك فتنة لهم ؛ لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا ، أو ممزوجة بالدنيا ، فإنما بعثناك فقيرا ؛ لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا. ه.
قال فى الحاشية : وقد قيل : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض ، على العموم فى جميع الناس : مؤمن وكافر ، بمعنى : أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى ، عليه ألا يحسده ، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه ، وتوجه إليه من ذلك ؛ لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر ، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم ؛ فتنة للمؤمنين ، واختبارا لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) (٢). والحاصل : أن الله تعالى دبّر خلقه ، وخص كلا بما شاء ، من غنى أو فقر ، أو علم أو جهل ، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات ؛ ليظهر من يسلّم له حكمه وقسمته ، ومن ينازعه فى ذلك ، ومن يؤدى حق ما توجه عليه من ذلك ؛ فيكون شاكرا صابرا ، ومن لا ، وهو أعلم بحكمته فى ذلك ، ولذلك قال : (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً). ه.
وقال مقاتل : نزلت فى أبى جهل ، والوليد بن عتبة ، والعاص ، حين رأوا أبا ذر وعمارا وصهيبا ، وغيرهم من فقراء المسلمين ، قالوا : أنسلم ؛ فنكون مثل هؤلاء؟ فنزلت الآية ، تخاطب هؤلاء المؤمنين : أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر؟ ه.
قال النسفي : أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا ، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم؟ حكى أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه ، فخرج ضجرا ، فرأى [خصيا فى] (٣) مواكب ومراكب ، فخطر بباله شىء ، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية ، فقال : بل نصبر ، ربّنا. ه.
__________________
(١) انظر تفسير البغوي ٦ / ٧٧.
(٢) من الآية ١١١ من سورة المؤمنون.
(٣) في الأصول المخطوطة [فى حصباء] ، والمثبت هو الذي فى تفسير النسفي.