قال القشيري : هو استفهام بمعنى الأمر ، فمن قارنه التوفيق صبر وشكر ، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. ه. وقيل : هو الأمر بالإعراض عما جعل فى نظره فتنة ، كما قال : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) (١) ، فينبغى ألا ينظر بعض إلى بعض ، إلا لمن دونه ، كما ورد فى الخبر (٢). ه.
(وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) ؛ عالما بالحكمة فيما يبتلى به ، أو : بمن يصبر ويجزع. وقال أبو السعود : هو وعد كريم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بالأجر الجزيل ؛ لصبره الجميل ، مع مزيد تشريف له ـ عليه الصلاة والسلام ـ ؛ بالالتفات إلى اسم الرب مضافا إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم. ه.
الإشارة : الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هى سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا ، إلا قدر الحاجة ، بعد التوقف والاضطرار ، ابتداء وانتهاء ، حتى تحققوا بالله. ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره. والحالة الشريفة : ما سلكها نبينا صلىاللهعليهوسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد ، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودى ، فى وسق من شعير. وعادته تعالى ، فيمن سلك هذا المسلك ، أن يديل الغنى فى عقبه ، فيكونون أغنياء فى الغالب. والله تعالى أعلم.
وما وصف به الحق تعالى رسله ؛ من كونهم يأكلون الطعام ، ويمشون فى الأسواق ، هو وصف للأولياء أيضا ـ رضى الله عنهم ـ ؛ فيمشون فى الأسواق ؛ للعبرة والاستبصار فى تجليات الواحد القهار ، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام ، وفى ذلك يقول الششترى رضي الله عنه : عين الزحام هو الوصول لحيّنا.
وكان شيخ أشياخنا ـ سيدى على العمراني ـ يقول لأصحابه : من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق. ه. فينبغى للمريد أن يربى فكرته فى العزلة والخلطة والخلوة والجلوة ، ولا يتقصر على تربيتها فى العزلة فقط ؛ لئلا يتغير حاله فى حال الخلطة ؛ فيبقى ضعيفا. فالعزلة تكون ؛ ابتداء ، قبل دخول بلاد المعاني ، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة ، حتى يستوى قلبه فى الخلوة والجلوة ، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء ؛ والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء. فالمشى فى الأسواق والأكل فيها من سنة الفقراء ، أهل الأحوال ؛ مجاهدة لنفوسهم ، وترييضا لها على إسقاط مراقبة الخلق ، والخوف منهم. وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلىاللهعليهوسلم ؛ تشريفا لأهل الأحوال ، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ..).
__________________
(١) من الآية ١٣١ من سورة طه.
(٢) قال صلىاللهعليهوسلم : «إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه فى المال والخلق ، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضّل عليه». أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب لينظر إلى من هو أسفل منه ، ح ٤٦٩٠) ، ومسلم فى (الزهد والرقائق ، ٤ / ٢٢٧٥ ، ح ٢٩٦٣) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.