تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))
يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى : قريشا ، وهم القائلون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) (١) ، والتعبير عنهم بعنوان الكفر ؛ لذمهم ، والإشعار بعلّيّة الحكم ، قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) ، نزّل هنا بمعنى أنزل ، وإلا كان متدافعا ؛ لأن التنزيل يقتضى التدرج بصيغته ، وهم إنما اقترحوا الإنزال جملة ، أي : هلّا أنزل القرآن ، حال كونه (جُمْلَةً واحِدَةً) أي : دفعة واحدة فى وقت واحد ، كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وماله أنزل مفرقا فى سنين؟ وبطلان هذه المقالة الحمقاء مما لا يكاد يخفى على أحد ؛ فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ، ودليل كونها من عند الله ، إعجازها ، وأما القرآن الكريم ، فبينة صحته ، ودليل كونه من عند الله ، نظمه المعجز الباقي على مر الدهور ، ولا ريب فى أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال ، ومن ضرورية تغيرها وتجددها تغير ما يطابقها حتما ، على أن له فوائد أخرى ، قد أشير إلى بعض منها بقوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) ؛ فإنه استئناف وارد من جهته تعالى ؛ لرد مقالتهم الباطلة ، وبيان الحكمة فى التنزيل التدريجي. قاله أبو السعود.
أي : أنزلناه كذلك مفرقا فى عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين ؛ لنثبت به فؤادك ، ونقوى به يقينك ، فكلّما نزل شىء من الوحى قوى القلب ، وازداد اليقين ، حتى يصير إلى عين اليقين وحق اليقين. قال القشيري : لأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل ـ عليهالسلام ـ بالرسالة فى كل وقت وحين. وكثرة نزوله كان أوجب ؛ لسكون قلبه ، وكمال روحه ، ودوام أنسه ، ولأنه كان جبريل يأتيه فى كل وقت بما يقتضيه ذلك الوقت من الكوائن والأمور الحادثة ، فكان ذلك أبلغ فى كونه معجزة ، وكان أبعد من التهم من أن يكون من جهة غيره ، وبالاستعانة بمن سواه حاصلا. ه.
وقال القرطبي بعد كلام : وأيضا : لو أنزل جملة ، بما فيه من الفرائض ؛ لثقل عليهم ، وأيضا : فى تفريقه تنبيه لهم ، مرة بعد مرة ، وهو أنفع لهم ، وأيضا : فيه ناسخ ومنسوخ ، ولو نزل ذلك جملة لنزل فيه الأمر بالشيء وبتركه ، وهو لا يصح. ه. وقال النسفي : لنقوى ، بتفريقه ، فؤادك ؛ حتى تعيه وتحفظه ؛ لأن المتلقى إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شىء ، وجزءا عقب جزء ، ولو ألقى عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه. أو : لنثبت به فؤادك عن الضجر ؛ وذلك بتواتر الوصول وتتابع الرسول ؛ لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب. ه.
__________________
(١) الآية ٢١ من سورة الفرقان.