وهؤلاء وصلوا حدّاً تصفه الآية فتقول : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّءَايَةٍ لَّايُؤْمِنُوا بِهَا) بل الأكثر من ذلك أنّهم عندما يأتون إليك ، لا يفتحون نوافذ قلوبهم أمام ما تقول ، ولا يأتون ـ على الأقل ـ بهيئة الباحث عن الحق الذي يسعى للعثور على الحقيقة والتفكير فيها ، بل يأتون بروح وفكر سلبيين ، ولا هدف لهم سوى الجدل والإعتراض : (حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ). أنّهم عند سماعهم كلامك الذي يستقى من ينابيع الوحي ويجري على لسانك الناطق بالحق ، يبادرون إلى إتهامك بأنّ ما تقوله إنّما هو خرافات اصطنعها اناس غابرون : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
الآية التالية تذكر أنّ هؤلاء لا يكتفون بهذا ، فهم مع ضلالهم يسعون جاهدين للحيلولة دون سلوك الباحثين عن الحقيقة بما يشيعونه ويروّجونه من مختلف الأكاذيب ، ويمنعونهم أن يقتربوا من رسول الله صلىاللهعليهوآله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) ويبتعدون عنه بأنفسهم : (وَيَنَوْنَ عَنْهُ) (١). دون أن يدركوا أنّ من يصارع الحق يكن صريعه ، وأخيراً ، وبحسب قانون الخلق الثابت ، يظهر وجه الحق من وراء السحب ، وينتصر بما له من قوة ، ويتلاشى الباطل كما يتلاشى الزبد الطافي على سطح الماء ، وعليه فإنّ مساعيهم سوف تتحطم على صخرة الإخفاق والخيبة وما يهلكون غير أنفسهم ، ولكنهم لا يدركون الحقيقة : (وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (٢٨)
في هاتين الآيتين إشارة إلى بعض مواقف عناد المشركين وفيهما يتجسد مشهد من مشاهد نتائج أعمالهم لكي يدركوا المصير المشؤوم الذي ينتظرهم فيستيقظون ، أو تكون حالهم ـ على الأقل ـ عبرة لغيرهم ، فتقول الآية : (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) لتبيّن لك مصيرهم السيىء المؤلم.
إنّهم في تلك الحال على درجة من الهلع بحيث إنّهم يصرخون : ليتنا نرجع إلى الدنيا لنعوّض عن أعمالنا القبيحة ، ونعمل للنجاة من هذا المصير المشؤوم ، ونصدّق آيات ربنا ،
__________________
(١) «ينأون» : من «نأى» بمعنى إبتعد.