تضيف مباشرة إنّنا تركناه وهواه وبدلاً من أن ينتفع من معارفه فإنّه هوى وانحطّ (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَيهُ).
«أخلد» : من «الإخلاد» وهي تعني السكن الدائم في مكان واحد مع حرية الإرادة ، فجملة (أخلد إلى الأرض) تعني اللصوق الدائم بالأرض ، وهي كناية عن عالم المادة وبهارجها ، واللذائذ غير المشروعة للحياة المادية.
ثم تشبّه الآية هذا الفرد بالكلب الذي يُخرج لسانه لاهثاً دائماً كالحيوانات العطاشى فتقول : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث).
فهو لفرط اتّباعه الهوى وتعلقه بعالم المادة انتابته حالة من العطش الشديد غير المحدود وراء لذائذ الدنيا ، وكل ذلك لم يكن لحاجة ، بل لحالة مَرضيّة ، فهو كالكلب المسعور الذي يظهر بحالة عطش كاذب لا يمكن إرواؤها وهي حالة العبيد الذين لا يهمهم غير جمع المال واكتناز الثروة فلا يحسون معه بشبع أبداً.
ثم تضيف الآية : إنّ هذا المثال الخاص لا يتعلق بفرد معين ، بل : (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
(العالِم المنحرف بلعم بن باعوراء :) يستفاد من أغلب الروايات وأحاديث المفسرين أنّ هذا الشخص يسمّى (بلعم بن باعوراء) الذي عاصر النبي موسى عليهالسلام وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل ، حتى أنّ موسى عليهالسلام كان يعوّل عليه كداعية مقتدر ، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجاباً لدى الباري جلّ وعلا ، لكنّه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب ، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذٍ في جبهة أعداء موسى عليهالسلام.
ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم واجتنابهم.
والآيتان التاليتان ـ كنتيجة عامّة وشاملة لقضية (بلعم) وعلماء الدين الذين أحبّوا الدنيا ـ فتقول اولاهما : (سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ).
فما أفحش ظلم الإنسان لنفسه وهو يسخّر ملكاته المعنوية وعلومه النافعة التي بإمكانها أن تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير ، ويضعها تحت اختيار المستكبرين وأصحاب القدرة الدنيوية ويبيعها بثمن بخس فيؤدّي ذلك إلى سقوطه وسقوط المجتمع والآية الأخيرة تحذّر الإنسان وتؤكّد له أنّ الخلاص من مثل هذا الانحراف وما يكيده الشياطين لا يمكن إلّا بتوفيق وتسديد من الله عزوجل : (مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).