«الخفاف» : جمع الخفيف ؛ «الثقال» : جمع الثقيل ، ولهاتين الكلمتين مفهوم شامل يستوعب جميع حالات الإنسان. أي انفروا في أيّة حالة كنتم شباباً أم شيوخاً ، تعولون أحداً أم لا تعولون ، أغنياءً أم فقراء ، أصحابَ تجارة أو زراعة أم لستم من اولئك.
ثم تضيف الآية قائلة : (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ). أي جهاداً مطلقاً عاماً من جميع الجهات ، لأنّهم كانوا يواجهون عدوّاً قويّاً مستكبراً.
ولئلا يتوهّم أحد أنّ هذه التضحية يريدها الله لنفسه ولا تنفع أصحابها ، فإنّ الآية تضيف قائلة : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ). أي إن كنتم تعلمون بأنّ الجهاد مفتاح عزتكم ورفعتكم ومنعتكم.
وإن كنتم تعلمون بأنّ سبيل الوصول إلى مرضاة الله والسعادة الأبدية وأنواع النعم والمواهب الإلهية ، كل ذلك إنّما هو في هذه النهضة المقدسة العامة والتضحية المطلقة.
ثم يتناول القرآن ضعاف الإيمان الكسالى الذين يتشبثون بالحجج الواهية للفرار من ساحة القتال ، فيخاطب النبي مبيّناً واقعهم فيقول : (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) (١).
والعجيب أنّهم لا يكتفون بالأعذار الواهية ، بل (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ). فعدم ذهابنا إلى ساحات القتال إنّما هو لضعفنا وعدم اقتدارنا وابتلائنا! (يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
فهم قادرون على الذهاب إلى ساحات القتال ، لكن حيث إنّ السفر ذو مشقة ، ويواجهون صعوبةً وحرجاً ، فإنّهم يتشبثون بالكذب والباطل. ولم يكن هذا الأمر منحصراً بغزوة تبوك وعصر النبي صلىاللهعليهوآله فحسب ، ففي كل مجتمع فئة من الكسالى والمنافقين والطامعين والانتهازيين الذين ينتظرون لحظات الإنتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الاولى ، ويصرخوا بعالي الصوت أنّهم المجاهدون الأوائل والمخلصون البواسل ، ليصادروا ثمرات جهود الآخرين في إنتصارهم دون أن يبذلوا أيّ جهد!
غير أنّ هؤلاء «المجاهدين» المخلصين! كما يزعمون ، حين يواجهون الشدائد والأزمات يلوذون بالفرار ويتشبثون بالأعذار الباطلة والحجج الواهية ، كأن يقول أحدهم : إنّي
__________________
(١) «العَرَض» : ما يعرض ويزول عاجلاً ولا دوام له ، ويطلق عادةً على مواهب الدنيا المادية ؛ و «القاصد» : معناه السهل ، لأنّه في الأصل من قصد ، والناس يسعون في قصدهم إلى المسائل السهلة.
«الشقة» : تعني الأرض الصخرية أو الطريق الطويل البعيد الذي يجلب على عابره المشقة والنصب.