ثم تؤكّد مرّة اخرى على أنّ الله سبحانه قد تاب عليهم ، فتقول : (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط ، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد : (وَعَلَى الثَّلثَةِ الَّذِينَ خُلّفُوا).
إلّا أنّ اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة ، بل عندما عاش هؤلاء ـ وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية ، الذين مرّ شرح حالهم في سبب النزول ـ مقاطعةً اجتماعية شديدة ، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية ، فتقول : (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ).
بل إنّ صدور هؤلاء امتلأت همّاً وغمّاً بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود ، فكأنّه ضاق عليهم (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.
عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم فأيقنوا (وَظَنُّوا أَن لَّامَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) فأدركتهم رحمة الله مرّة اخرى ، وسهلت ويسّرت عليهم أمر التوبة الحقيقية ، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا : (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩)
كونوا مع الصادقين : في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله ، أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء ، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه. في البداية تقول الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ). ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
والصادقين هم الذين يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات ، بل يُثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.
ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات ، فقد يكون البعض في قمّتها ، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين ، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.