إنّ أثر (أُولُوا بَقِيَّةٍ) في بقاء المجتمع حساس للغاية ، حتى يمكن القول : إنّ المجتمع من دون «اولي بقية» يُسلب حق الحياة ، ومن هنا فقد وردت الإشارة إليهم في الآية المتقدمة.
ثم تستثني جماعة فتقول : (إِلَّا قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ).
هذه الجماعة القليلة وإن كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ولكنها كحال لوط عليهالسلام واسرته الصغيرة ، ونوح والمعدودين ممّن آمن به ، وصالح وجماعة من أتباعه ، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإصلاح العام والكلي في المجتمع.
إنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم ، وكما تقول الآية : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ). يعنى متى كان المجتمع ظالماً ولكنه مقبل على اصلاح نفسه ، فهذا المجتمع يبقى ، ولكن إذا كان المجتمع ظالماً ولم يُقبل على نفسه فيصلحها أو يطهرها فإنّ مصيره إلى الفناء والهلاك.
فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الانحرافات في المجتمعات المرفهة ، لأنّ سكرها من شهواتها يصدها عن إعطاء القيم الإنسانية الأصيلة حقها ودرك الواقعيات الاجتماعية ، ويغرقها في العصيان والآثام.
وللتأكيد على هذه الحقيقة ، تأتي الآية الثانية لتقول : إنّ هذا الذي ترون من إهلاك الله للُامم ، إنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩)
في الآية الاولى محل البحث إشارة إلى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتية لسائر المسائل المرتبطة بالإنسان ... وهي مسألة الاختلاف والتفاوت في بناء الإنسان روحاً وفكراً وجسماً وذوقاً وعشقاً ، ومسألة حرية الإرادة والاختيار. تقول الآية : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ). لئلا يتصور أحد من الناس أنّ تأكيد الله وإصراره على طاعة أمره دليل على عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.
لكن مثل هذا الإيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد ... فالإيمان القسري