الآيات السابقة فيقول : (فَوَ رَبّكَ لَنَسَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
إنّ عالم السر والعلن ومن لا يخفى عليه ذرة ما في السماوات والأرضين لا يسأل لكشف أمر خفي عليه (سبحانه وتعالى عن ذلك) وإنّما السؤال لتفهيم المسؤول قبح فعله ، فالسؤال قسم من العقاب الروحي.
ثم يأمر الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوآله بقوله : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ). أي : لا تخف من ضوضاء المشركين والمجرمين ، ولا تضعف أو تترد أو تسكت ، بل أدعهم إلى رسالتك جهاراً.
(وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ولا تعتن بهم.
«فاصدع» : من مادة «صدع» وهي لغة بمعنى «الشق» بشكل مطلق ، أو شق الأجسام المحكمة بما يكشف عمّا في داخلها ، ويقال أيضاً لألم الرأس الشديد (صداع) وكأنّه من شدّته يريد أن يشق الرأس. وهي هنا ... بمعنى : الإظهار والإعلان والإفشاء.
فالإعراض عن المشركين هنا بمعنى الإهمال ، أو ترك مجاهدتهم وحربهم ، لأنّ المسلمين في ذلك الوقت لم تصل قدرتهم ـ بعد ـ لمستوى المواجهة مع الأعداء وحربهم.
ثم يطمئن الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوآله تقوية لقلبه : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ).
ثم يصف المستهزئين : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهًاءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
كأنّ القرآن يريد أن يقول : إنّ أفكار وأعمال هؤلاء بنفسها عبث ، سخف ، حيث يعبدون ما ينحتونه بأيديهم من حجر وخشب ، ودفعهم جهلهم لأن يجعلوا مع الله ـ ما صنعوه بأيديهم ـ آلهة! ومع ذلك ... يستهزؤون بك.
ولمزيد من التأكيد على اطمئنان قلب النبي صلىاللهعليهوآله يضيف تعالى قائلاً : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ). فروحك اللطيفة وقلبك الطيّب الرقيق لا يتحملان تلك الأقوال السيئة وأحاديث الكفر والشرك ، ولذلك يضيق صدرك.
ولكن لا تحزن من قبح أقوالهم (فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُن مّنَ السَّاجِدِينَ). لأنّ تسبيح الله يذهب أثر أقوالهم القبيحة من قلوب أحبّاء الله.
ولهذا نقرأ في رواية نقلاً عن ابن عباس أنّه قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة.
ثم يعطي الله نبيه صلىاللهعليهوآله آخر أمر في هذا الشأن : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
إنّ العبادة مدرسة عالية للتربية ، لأنّها توقظ عقل الإنسان ، وتوجّه فكره نحو المطلق ،