مثل هذه النفسية لا يقتصر وجودها على عهود الجاهلية ومشركي العرب ، فاليوم أيضاً نجد من بلغ الستين من عمره ومع ذلك لم يجشم نفسه عناء ساعة واحدة من البحث والتحقيق في الله والدين ، وإن وقع بيده كتاب أو بحث في هذا الموضوع لم ينظر إليه وإن تحدّث إليه أحد بهذا الشأن لم يصغ إليه ، هؤلاء هم الجهلاء المعاندون الغافلون الذين قد يظهرون أحياناً أمام الناس بمظهر العالم المتجبّر!
ثم تشير الآية إلى نتيجة أعمالهم ، وهي : أنّهم عندما رأوا الحقيقة كذّبوها ، ولو أنّهم دققوا في آيات الله جيّداً لرأوا الحقيقة وأدركوها وآمنوا بها : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ). ولسوف تصلهم نتيجة هذا التكذيب والسخرية : («فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).
في هاتين الآيتين إشارة إلى ثلاث مراحل من الكفر تتزايد في الشدّة على التوالي ، المرحلة الاولى هي مرحلة الإعراض ، ثم مرحلة التكذيب ، وأخيراً مرحلة الإستهزاء بآيات الله.
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦)
مصير الطغاة : ابتداء من هذه الآية وما بعدها يشرع القرآن بعرض خطّة تربوية مرحلية لإيقاظ عبدة الأصنام والمشركين تتناسب مع اختلاف الدوافع عند الفريقين ، يبدأ أوّلاً بمكافحة عامل (الغرور) وهو من عوامل الطغيان والعصيان والانحراف المهمة ، فيذكّرهم بالأمم السالفة ومصائرهم المؤلمة ، وبذلك يحذر هؤلاء الذين غطت أبصارهم غشاوة الغرور ، ويقول : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ) (١).
ولكنهم لما استمروا على طريق الطغيان ، لم تستطع هذه الإمكانات إنقاذهم من العقاب الإلهي : («فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًاءَاخَرِينَ).
__________________
(١) «المدرار» : في الأصل من «درّ» اللبن ، ثم إنتقل إلى ما يشبهه في النّزول كالمطر ، والكلمة صيغة مبالغة.