وقارنت الآية الأخيرة بين القرآن وباقي الكتب السابقة : (وَهذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ). فهل ينكر مثل هذا الكتاب الذي يستبطن أدلّة أحقّيته فيه ، وقد سطعت نورانيته ، والذين يسيرون في طريقه سعداء منتصرون؟!
ولكي نعرف مدى أثر القرآن في التوعية وما له من البركات ، فيكفي أن نرى حال سكّان جزيرة العرب قبل نزول القرآن عليهم ، إذ كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفقر وتعاسة وتفرّق وتمزّق ، ثم نرى حالهم بعد نزول القرآن حيث أصبحوا اسوة ومثلاً حسناً للآخرين ، ونرى كذلك حال الأقوام الآخرين قبل وصول القرآن إليهم وبعده.
(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) (٥٨)
قلنا : أنّ هذه السورة تحدثت عن جوانب عديدة من حالات الأنبياء ، فقد اشير في الآيات السابقة إشارة قصيرة إلى رسالة موسى وهارون عليهماالسلام ، وعكست هذه الآيات وبعض الآيات الآتية جانباً مهماً من حياة إبراهيم عليهالسلام ومواجهته لعبدة الأصنام ، فتقول أوّلاً : (وَلَقَدْءَاتَيْنَا إِبْرهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ علِمِينَ). «الرشد» : في الأصل بمعنى السير إلى المقصد والغاية ، ومن الممكن أن يكون هنا إشارة إلى حقيقة التوحيد ، وأنّ إبراهيم عرفها واطّلع عليها منذ سني الطفولة ، وقد يكون إشارة إلى كل خير وصلاح بمعنى الكلمة الواسع.
والتعبير بـ (مِن قَبْلُ) إشارة إلى ما قبل موسى وهارون عليهماالسلام.
ثم أشارت إلى أحد أهمّ مناهج إبراهيم عليهالسلام ، فقالت : إنّ رشد إبراهيم قد بان عندما قال لأبيه وقومه ـ وهو إشارة إلى عمّه آزر ، لأنّ العرب تسمّي العمّ أباً ـ ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عكِفُونَ).
وجملة (أَنتُمْ لَهَا عكِفُونَ) بملاحظة معنى «العكوف» : الذي يعني الملازمة المقترنة