أعتابها النهائية ، حيث إنّ آيات بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود ، إذ تخاطبه بلهجة حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني ، شارحة له وظائفه ومسؤولياته الجسيمة بعد أن وضّحت مقامه الرفيع ، إذ تقول : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ).
محتوى هذه الآية التي تتحدث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمّة التي كلّف بها ، تبيّن أنّ القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من زوجة (أوريا) كلّها كاذبة ولا أساس لها من الصحة. فهل يمكن أن ينتخب الباريء عزوجل شخصاً ينظر إلى شرف المؤمنين والمقربين منه بعين خؤونة ويلوّث يده بدم الأبرياء ، خليفة له في الأرض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!
هذه الآية تضمّ خمس جمل كل واحدة منها تتحدث عن حقيقة معيّنة :
الاولى : خلافة داود في الأرض.
هذه الآية تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهية ، وأيّ حكومة لا تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهية فإنّها حكومة ظالمة وغاصبة.
الجملة الثانية : تأمر داود قائلة : بعد أن منحك الله سبحانه وتعالى هذه النعمة الكبيرة ، أي الخلافة ، فإنّك مكلّف بأن تحكم بين الناس بالحقّ (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ).
وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة الله هي ظهور حكومة تحكم بالحق.
أمّا الجملة الثالثة : فإنّها تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل ، ألا وهو اتّباع هوى النفس (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى).
نعم ، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان ، ويباعد بينه وبين العدالة.
لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول : (فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ).
فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك ، وأينما اتّبع هوى النفس فإنّ عاقبته الضلال.
والجملة الخامسة تشير إلى أنّ كل ضلال عن سبيل الله لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب ، ومن ينسى يوم الحساب فإنّ عذاب الله الشديد ينتظره : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
وتتمّة للبحث الذي إستعرض حال داود وخلافته في الأرض ، تتطرق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود ، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم ،