يعتدون عليه أدنى إعتداء ويؤدّون حقوق أصدقائهم ومعارفهم بصورة كاملة قليلون جدّاً ، وهم المتزودّون بالإيمان والعمل الصالح.
على أيّة حال ، فالظاهر أنّ طرفي الخصام إقتنعا بكلام داود عليهالسلام وغادرا المكان.
ولكن داود غرق في التفكير بعد مغادرتهما ، رغم أنّه كان يعتقد أنّه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفاً لإدّعاءات الطرف الأوّل ـ أي المدّعي ـ لكان قد إعترض عليه ، إذن فسكوته هو خير دليل على أنّ القضية هي كما طرحها المدّعي.
ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها ، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضاً ثم يحكم بينهما ، فلذا ندم كثيراً على عمله هذا ، وظنّ أنّما فتنه الباريء عزوجل بهذه الحادثة : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنهُ).
وهنا أدركته طبيعته ، وهي أنّه أوّاب ، إذ طلب العفو والمغفرة من ربّه وخرّ راكعاً تائباً إلى الله العزيز الحكيم : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ).
«خرّ» : مشتقة من «خرير» وتعني سقوط شيء من علو ويسمع منه الصوت مثل صوت الشلالات ، كما أنّها كناية عن السجود.
و «راكعاً» : إمّا أنّها تعني السجود كما جاءت في اللغة ، أو لكون الركوع مقدمة للسجود.
فالله سبحانه وتعالى شمل عبده داود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى ، كما توضّحه الآية التالية : (فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِكَ). وإنّ له منزلة رفيعة عند الله (وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَابٍ).
«زلفى» : تعني المنزلة (والقرب عند الله) ؛ و «حسن مآب» : إشارة إلى الجنة ونعم الآخرة.
(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (٢٩)
احكم بالعدل ولا تتّبع هوى النفس : نواصل استعراض قصة داود ، ونقف هنا على