إلّا أنّهما عمدا بسرعة إلى تطييب نفسه وإسكان روعه ، وقالا له : لا تخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر ؛ (قَالُوا لَاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ).
فاحكم الآن بيننا ولا تتحيّز في حكمك وأرشدنا إلى الطريق الصحيح : (فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصّرَاطِ).
«تشطط» : مشتقة من «شطط» على وزن (فقط) ، وتعني البعيد جدّاً ، ولكون الظلم والطغيان يبعدان الإنسان كثيراً عن الحقّ ، فكلمة (شطط) تعني الإبتعاد عن الحق ، كما تطلق على الكلام البعيد عن الحقيقة.
ولذلك تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داود ، وقال : هذا أخي ، يمتلك (٩٩) نعجة ، وأنا لا أمتلك إلّانعجة واحدة ، وإنّه يصرّ عليّ أن أعطيه نعجتي ليضمّها إلى بقية نعاجه ، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ : (إِنَّ هذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ).
«النعجة» : هي الانثى من الضأن ، وقد تطلق على انثى البقر الوحشي والخراف الجبلية.
«اكفلنيها» : مشتقة من «الكفالة ، وهي هنا كناية عن التخلي (ومعنى الجملة : إجعلها لي وفي ملكيتي وكفالتي ، أي إمنحني إيّاها).
«عزّني : مشتقة من «العزّة وتعني التغلّب ، وبذا يكون معنى الجملة إنّه تغلّب عليّ.
وهنا التفت داود عليهالسلام إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر (كما يوضّحه ظاهر الآية) وقال : من البديهي أنّه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه ؛ (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ).
وهذا الأمر ليس بجديد ، إذ إنّ الكثير من الأصدقاء والمخالطين بعضهم لبعض يبغي على صاحبه ، إلّاالذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم قلّة : (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) (١).
فالأشخاص الذين يراعون بصورة كاملة في معاشرتهم وصداقتهم الطرف المقابل ، ولا
__________________
(١) «خلطاء» : جمع «خليط» وتعني الأشخاص أو الأشياء المخلوطة بعضها مع بعض ، كما تطلق على الصديق والشريك والجار ، ورغم أنّ الظلم والإعتداء لم يختصّ بالخلطاء ، إلّاأنّ ذكر هذه المجموعة بسبب وجود الإتّصالات المتكرّرة فيما بينهم ، وإحتمال حدوث سوء تفاهم فيما بينهم ، أو بسبب عدم توقّع حدوث أي ظلم وطغيان من قبل اولئك.