وتتساءل الآية في نهايتها : كيف يسوّغ الإنسان لنفسه الإنحراف والتنكّب عن الجادة المستقيمة؟ فيقول تعالى : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
والملاحظ أنّ «تؤفكون» صيغة مجهول ، بمعنى أنّها تحرفكم عن طريق الحق ، وكأنّ المراد هو أنّ المشركين فاقدون للإرادة إلى درجة أنّهم يساقون في هذا المسير دون أيّ نسبة من الحرية والإرادة والإختيار في هذا المجال!
الآية الأخيرة ـ من مجموعة الآيات التي نبحثها ـ تأتي وكأنّها تأكيد لمواضيع الآيات السابقة ، فيقول تعالى : (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بَايَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).
«يجحدون» : مشتقة من مادة «جحد» وهي في الأصل تعني إنكار الشيء الموجود في القلب والنفس. بمعنى أنّ الإنسان يقر في نفسه وقلبه بعقيدة أو بشيء ما ، وفي نفس الوقت ينفيه ويتظاهر بعكسه أو يعتقد بعدمه في نفسه ويثبته في لسانه.
ويطلق وصف الجحود على البخلاء والذين لا يؤمّل منهم الخير ويتظاهرون بالفقر دائماً.
بعض علماء اللغة أوجز في تفسير «جحد» و «جحود» بقولهم : الجحود الإنكار مع العلم.
وبناءً على ما تقدّم فإنّ الجحود يتضمّن في داخله نوعاً من معاني العناد في مقابل الحق.
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (٦٦)
ذلكم الله ربّكم : تستمر هذه المجموعة من الآيات الكريمة بذكر المواهب الإلهية العظيمة وشمولها للعباد ، كي تهب لهم المعرفة ، وتُربّي في نفوسهم الأمل بالدعاء والتسليم وطلب الحوائج من الله تعالى.
والطريف في الأمر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن «النعم الزمانية» من ليل ونهار ، بينما تتحدث هذه المجموعة عن «النعم المكانية» أي الأرض المستقرة ، والسقف المرفوع (السماء) حيث تقول : (اللهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا).