مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ).
والمراد من (بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) هم الملائكة الذين كانوا يعتبرونهم بنات الله ، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أنّها آلهتهم ، وأنّها شبيهة به ـ سبحانه ـ ومثله.
إنّ لفظة (كظيم) من مادة «كظْم» ، وتعني الحلقوم ، وجاءت أيضاً بمعنى غلق فم قربة الماء بعد امتلائها ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة استعملت للتعبير عمّن امتلأ قلبه غضباً أو غمّاً وحزناً ، وهذا التعبير يحكي جيّداً عن خرافة تفكير المشركين البله في عصر الجاهليّة فيما يتعلق بولادة البنت ، وكيف أنّهم كانوا يحزنون ويغتمّون عند سماعهم بولادة بنت لهم ، إلّا أنّهم في الوقت نفسه كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة بنات الله سبحانه.
وتضيف في الآية الكريمة : (أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١).
لقد ذكر القرآن هنا صفتين من صفات النساء غالباً ، تنبعثان من ينبوع عاطفتهن ، إحداهما : تعلّق النساء الشديد بأدوات الزينة ، والاخرى : عدم إمتلاكهن القدرة الكافية على إثبات مرادهن أثناء المخاصمة والجدال لحيائهن وخجلهنّ.
وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ هذا المطلب بصراحة أكثر ، فتقول : (وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا).
ثم تجيبهم الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري فتقول : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ).
وتضيف في النهاية : (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسَلُونَ).
(وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٢٢)
لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين : أعطت الآيات السابقة أوّل جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافيّة ، حيث كانوا يظنون أنّ الملائكة بنات الله ، وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع ، وتسلك مسالك اخرى لإبطال هذه الخرافة القبيحة ، فتتعرض أوّلاً لأحد الأدلّة الواهية لهؤلاء ثم تجيب عليه فتقول : (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم).
__________________
(١) «ينشّؤا» : من مادة «الإنشاء» ، أي إيجاد الشيء ، وهنا بمعنى تربية الشيء وتنميته ؛ و «الحلية» : تعني الزينة ؛ و «الخصام» : هو المجادلة والنزاع على شيء ما.