مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
وبهذا فقد عظّم فرعون القيم المبتدعة السيئة ، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية ، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبي الخاتم صلىاللهعليهوآله.
ثم يضيف : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).
وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين ـ حكومة مصر ، وملك النيل ـ وذكر لموسى نقطتي ضعف : الفقر ولكنة اللسان.
هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أيّة لكنة في اللسان ، لأنّ الله تعالى قد استجاب دعاءه ، ورفع عنه عقدة لسانه ، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى) (١).
ومن المسلّم أنّ دعاءه قد استجيب ، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً.
ثم تشبث فرعون بذريعتين أخريين ، فقال : (فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلِكَةُ مُقْتَرِنِينَ).
إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية ، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه ، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.
أمّا أنبياء الله فإنّهم بطرحهم هذه المسائل ـ بالذات ـ جانباً كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة ، وأن يزرعوا محلّها القيم الإنسانية الأصيلة ـ أي العلم والتقوى والطهارة ـ لأنّ نظام القيم إذا لم يُصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه السعادة أبداً.
وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة ، وهي : إنّ فرعون لم يكن غافلاً عن واقع الأمر تماماً ، وكان ملتفتاً إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير ، إلّاأنّه : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ).
إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الإستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها ، هي الإبقاء على الناس في مستوى متردٍ من الفكر والثقافة والوعي ، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل ، لأنّ يقظتها ووعيها ، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات ، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة.
والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة : (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) إشارة إلى أنّ
__________________
(١) سورة طه / ٢٧.