ابن عمار : «الناس رجلان : عارف بنفسه ، فشغله في المجاهدة والرياضة ، وعارف بربه ، فشغله بخدمته وعبادته ومرضاته».
ولقد أسرف بعض الصوفية في تصوير المجاهدة اسرافا لا يتواءم مع سماحة الدين ويسر الاسلام ، وهذا مثلا هو الحكيم الترمذي يرى أن جهاد النفس يشمل صدها عن الحرام ، وعن الاقتراب من حمى الاثم ، بل منعها عن الحلال في أول الامر ، حتى لا تطمع في الحرام ، ويصوّر ذلك بأن الانسان يلزم نفسه الصمت عن الكلام حتى تتعود السكوت ، وتموت عندها شهوة الكلام ، وبذلك يقوى الانسان على الصدق بعد ذلك ، فلا يتكلم الا بحق ، وبذلك يصير سكوته عبادة ، وكلامه عبادة ، لأنه ان نطق نطق بحق ، وان سكت سكت بحق.
ويتوسع الترمذي توسعا غير جميل وغير مقبول ، فيقول : «وفي الجملة ينبغي أن يتفقد كل حال وكل أمر للنفس فيه فرح واستبشار ، من نعمة أو وجود لذة أو أنس بشيء ، فيقطعه عنها ، وانه كلما هويت النفس شيئا أعطاها فرحت به ، فينبغي له أن يمنعها ، ولو شربة من ماء باردة تريد أن تشربها ، فيمنعها في تلك الفورة التي تشوفت لوجود بردها ولذتها ، حتى تسكن تلك الفورة ، وينغص عليها ، ثم يسقيها بعد ذلك ، حتى يملأها غما ، ويوقرها هما (١) ، لأن من شأنها اذا حبس عنها هذه الافراح بهذه الاشياء وبهذه الاحوال ، فكأنه صيّرها في سجن ، فيتقرب الى الله عزوجل بغمها وهمها ، فيجعل الله عزوجل له ثوابه نورا على القلب ، فيزداد القلب بذلك النور قوة على منع النفس شهواتها ، وعلى أخذ سلطانها ، ويستولي عليها وهي تذل وتذبل ، والعدو يخسا ويتحير ، ويبطل كيده ومكره».
__________________
(١) يوقرها : يثقلها ويملؤها.