ثاقب بالفراسة. وقد عمل في ذلك كتب. من تتبع الصحيح منها ، اطلع على صدق ما ضمنوه. والفراسة ضرب من الظن. وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال : الظن بتقلب القلب. والفراسة بنور الرب. ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] و [ص : ٧٢] ، كان ممن وصفه بقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ (١) شاهِدٌ مِنْهُ) [هود : ١٧] ، وكان ذلك النور شاهدا ، أصاب فيما حكم به. ومن الفراسة قوله عليه الصلاة والسلام في المتلاعنين : (إن أمرهما بيّن ، لو لا حكم الله) (٢).
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٨١)
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) (إن) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف. أي : وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. وهم قوم شعيب عليهالسلام. كانوا يسكنون أيكة ، وهي بقعة كثيرة الأشجار ، فظلموا بأنواع من الظلم ، من شركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان. فبعث الله إليهم شعيبا عليهالسلام فكذبوه. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي بعذاب الظلة ، وهي سحابة أظلتهم بنار تقاذفت منها ، فأحرقتهم (وَإِنَّهُما) يعني قرى قوم لوط والأيكة (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي طريق واضح. وقد كانوا قريبا من قوم لوط ، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان. ولهذا لما أنذرهم شعيب قال : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩].
(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) يعني ثمود ، كذبوا صالحا عليهالسلام. ومن كذب واحدا من الأنبياء عليهمالسلام ، فقد كذب الجميع. لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار. و (الحجر) واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه. معروف. يجتازه ركب الحج الشاميّ.
(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يعني بالآيات ما دلهم على صدق دعوى نبيّهم. كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء. وكانت تسرح
__________________
(١) أخرجه البخاري في : الطلاق ، ٣١ ـ باب قول النبي صلىاللهعليهوسلم : لو كنت راجما بغير بينة ، حديث رقم ٢١٦٣. عن ابن عباس.