وعلى هذا ، فتخصيص اليمين بالذكر ، للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية. و (التوكيد والتأكيد) ، لغتان فصيحتان. والأصل الواو ، والهمزة بدل منها. والواو في قوله : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) للحال من فاعل (تَنْقُضُوا) أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفا. ومعنى (كَفِيلاً) شهيدا رقيبا. و (الجعل) مجاز. فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهدا. قال الشهاب : ولو أبقى (الكفيل) على ظاهره ، وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته ، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله ، كما يقال (من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه) تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب ـ لكان معنى بليغا جدّا. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) كالتفسير لما قبله. وفيه ترغيب وترهيب.
تنبيه :
في الآية الحث على البرّ في الأيمان. وجليّ أنها فيما فيه طاعة وبرّ وتقوى. وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها. وقد دل عليه ما ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم في الصحيحين (١) أنه قال : إني ، والله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها. (وفي رواية : وكفّرت عن يميني). فالحديث في معنى ، والآية في معنى آخر. فلا تعارض ، كما وهم. وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٩٢)
(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقض. أي لا تكونوا في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها ، بعد أن أحكمته وأبرمته ، فجعلته أنكاثا ، أي أنقاضا ، جنونا منها وحمقا.
ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمّل ، داخل في زمرة النساء. بل في أدناهن ، وهي الخرقاء.
وقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) حال من الضمير في (ولا تكونوا) أي لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها ، حال كونكم متخذين أيمانكم
__________________
(١) أخرجه مسلم في : الأيمان ، حديث ٧ ـ ١٠.