وتعجب من كلمتهم الحمقاء (هُوَ الْغَنِيُ) أي الذي وجوده بذاته ، وبه وجود كل شيء ، فكيف يماثله شيء؟ ومن له الوجود كله ، فكيف يجانسه شيء؟ والجملة علة لتنزيهه ، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة ، إما للتقوّي به ، أو لبقاء نوعه (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لغناه. أي فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي : ما عندكم من حجة بهذا القول الباطن. توضيح لبطلانه ، بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض. أي ليس بعد هذا حجة تسمع. والمراد تجهيلهم ، وأنه لا مستند لهم سوى تقليد الأوائل ، واتباع جاهل لجاهل.
تنبيه :
دلت الآية على تسمية البرهان سلطانا.
قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) : إنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطانا. قال ابن عباس رضي الله عنه : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، وهذا كقوله تعالى : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) يعني ما عندكم من حجة بما قلتم ، إن هو إلا قول على الله بلا علم. وقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣] ، يعني ما أنزل بها حجة ولا برهانا ، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم. وقول تعالى : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) يعني حجة واضحة. إلا موضعا واحدا اختلف فيه ، وهو قوله : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ، فقيل : المراد به القدرة والملك ، أي ذهب عني مالي وملكي ، فلا مال لي ولا سلطان ، قيل : هو على بابه ، أي انقطعت حجتي وبطلت ، فلا حجة لي. والمقصود : أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا ، لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره ، فله بها سلطان على الجاهلين ، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد ، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد ، فإن الحجة تنقاد لها القلوب ، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن. فالحجة تأسر القلب وتقوده ، وتذل المخالف ، وإن أظهر العناد والمكابرة ، فقلبه خاضع لها ذليل ، مقهور تحت سلطانها. بل سلطان الجاه ، إن لم يكن معه علم يساس به ، فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها ، قدرة بلا علم ولا رحمة ، بخلاف سلطان الحجة ، فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة ، ومن لم يكن له اقتدار في علمه ، فهو إما لضعف حجته وسلطانه ، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له ، وإلا فالحجة ناصرة نفسها ، ظاهرة على الباطل قاهرة له ـ انتهى ـ.