أعني به إلا عقد القلب ، وحكمه على غيره بسوء الظن. فأما الخواطر وحديث النفس ، فهو معفوّ عنه ، بل الشك أيضا معفوّ عنه. ولكن المنهيّ عنه أن يظن. والظن عبارة عما تركن إليه النفس ، ويميل إليه القلب. فقد قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). قال : وسبب تحريمه أن أسرار القلوب ، لا يعلمها إلا علام الغيوب ، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل. فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته. وما لم تشاهده بعينك ، ولم تسمعه بأذنك ، ثم وقع في قلبك ، فإنما الشيطان يلقيه إليك ، فينبغي أن تكذّبه فإن أفسق الفساق. إلى أن قال : فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة ، أو بينة عادلة. انتهى.
ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس ، فإن القلب لا يقنع بالظن ، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس ، ذكر سبحانه النهي عنه ، إثر سوء الظن لذلك ، فقال تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) قال ابن جرير : أي لا يتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما تعلمونه من سرائره.
يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه ، وبحث عنه ، كتلمس. قال الشهاب : الجس (بالجيم) كاللمس ، فيه معنى الطلب ، لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه ، فأريد به ما يلزمه. واستعمل التفعل للمبالغة فيه.
قال الغزاليّ : ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله. فيتوصل إلى الاطلاع ، وهتك الستر ، حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه ، كان أسلم لقلبه ودينه.
وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة. منها حديث (١) أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن ، فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ، ولو في جوف بيته».
وفي الصحيح (٢) عنه صلىاللهعليهوسلم : «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا».
__________________
(١) أخرجه الترمذي في : البرّ والصلة ، ٨٥ ـ باب ما جاء في تعظيم المؤمن ، عن ابن عمر.
(٢) أخرجه البخاري في : النكاح ، ٤٥ ـ باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع ، حديث رقم ٢١٢٥ ، عن أبي هريرة.