لأصفيائه ، وأكابر أوليائه ، وغرباء أحبائه من الصدّيقين والمقرّبين ، وستر هذه الأسرار والعجائب على غيرهم من علماء الظاهر ، وأهل الرسوم الذين هم في حظّ وافر من الناسخ والمنسوخ والفقه والعلم ، ومعرفة الحلال والحرام ، والحدود والأحكام.
وتلك الصفوة الصادقة الذين فتح الله على قلوبهم من لطائف دقائق كتابه ، وما كتم على أسرار غيرهم من سنيّ فضائل مكاشفاته ، نطقوا على حسب مقاماتهم بين يدي جبروته ، وقدّر سيرانهم في ميادين ملكوته بإشارات شافية ، وعبارات كافية من قلوب صافية ، وعقول راسخة ، وأرواح عاشقة ، وأسرار مقدسة ، وهم في إدراك إشارات القرآن بالتفاوت ، كتفاوتهم في درجات المعاينات ، والمكاشفات ، والحالات ، والمداناة ، ورؤية المغيّبات ، وما لاح لأسرارهم من أنوار الأزليات والأبديات ، وما بلغوا فيما نطقوا ، وأخبروا قعر بحار القرآن ؛ لأنه صفات الرحمن ، ولا يدرك جميع حقائقه أهل الحدثان.
وصلى الله على سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم السفير الأعلى ، وسيد أهل الآخرة والأولى ، وشفيع الورى الذي سافر بيداء الآزال والآباد ، ودنا من القدم حتى لم يبق بينه وبين الحق ؛ إلا قاب قوسين أو أدنى ، عليه التحية الأسنى والبركات الأنمى ، وعلى آله نجوم الهدى ، وأصحابه مصابيح الدّجى.
أما بعد ...
فإن أطيار أسراري لمّا فرغت من الطيران في المقامات والحالات ، وارتفعت من ميادين المجاهدات والمراقبات ، ووصلت إلى بساتين المكاشفات والمشاهدات ، وجلست على أغصان ورد المداناة ، وشربت شراب الوصال ، وسكرت برؤية الجمال ، وولهت في أنوار الجلال ، وصحت من مقام القدس بذوق الأنس ، وتلقفت من فلق الغيب شقائق دقائق القرآن ، ولطائف حقائق العرفان ، فطارت بأجنحة العرفان ، وترنّمت بألحان الجنان في أحسن البيان بهذا اللسان في رموز الحق التي أخفاها على فهوم أهل الرسوم.
وما تصدّيت لهذا الأمر إلا بعد خاطري بالمعرفة والحكمة الربانية ، واقتديت بالصدر الأول من المشايخ الكرام في تفسير حقائق الكلام ، ولمّا وجدت أن كلامه الأزلي لا نهاية له في الظاهر والباطن ، ولم يبلغ أحد من خلق الله إلى كماله ، وغاية معانيه ؛ لأن تحت كل حرف من حروفه بحرا من بحار الأسرار ؛ ونهرا من أنهار الأنوار ؛ لأنه وصف القدم.
وكما لا نهاية لذاته ، لا نهاية لصفاته ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] ، وقال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [الكهف :