لوعده تعالى ، وإذا دخلوا المسجد دخلوا هائمين من رؤية عظمته ، وذكروا هيبته وإجلاله ، وإذا رأوا البيت رأوا قبل رؤية البيت رب البيت ، ومشاهدته ، وعلموا أنهم في حضرته القديمة ، ومشاهدته الكريمة ، وإذا طافوا حول البيت رأوا ملائكته مطيفين حول العرش والكرسي ، وأيقنوا أنهم عند الله تعالى بمنزلتهم ، وإذا استلموا علموا أنهم بايعوا الله ببيعة الأزل بنعت الخروج عن المخالفة بعد تلك المبايعة ، ولا يمدون أيديهم إلى المألوفات والشهوات ، وإذا صلوا خلف المقام علموا أنهم في مقام الوصلة والقربة والمناجاة ، ومحل الوافين بعهد الله ، وإذا تعلّقوا بأستار الكعبة أيقنوا أنهم معتصمون بحبل الاعتصام ، لائذون بحقيقة عصمته ، ملتجئون إلى كنف قربته ، منفردون عن اللياذة ، واجدون الحق بعد ذلك ، وإذا دخلوا بيت تعالى ، أيقنوا أنهم في حفظ عنايته وكنف كلايته ، مستغرقين في وجود قدمه وبقائه ، وإذا صعدوا الصفا والمروة خرجوا من كدورات النفسانية ، ورأوا أنهم في مقام الاصطفاء والاجتباء ، ومن له بصيرة المعرفة علم وتحقق أنّ الله تعالى رسم هذه المناسك والمشاعر مثالا لحضرة جلاله ، وبنى الكعبة مثالا للعرش والمسجد الحرام مثالا لحظيرة القدس ، وجعل البلد مثالا للجنة ، والصفا والمروة وجبال مكة مثالا لحجاب الملكوت ، والحرم كله سواتر الجبروت ، والمنى مقام الأمن ، والمشعر مقام الخوف والتعظيم ، والمعرفة أرض المحشر ، والمحرم مقام القيامة ، والبادية الدنيا ، والخروج من الوطن الموت ، والقصد إلى زيارة البيت التأهب للقاء الرب تبارك وتعالى ، فإذا أبصر حقائق هذه الأمثال صار حجه قربة ومشاهدة سعيه مبرورا ، وعمله مشكورا.
ذكرت حج العارفين من الموقنين والمشاهدين ، وأيضا هذه أمثلة مشاعر الباطن : فالكعبة هي القلب ، والحجر الصدر ، والبلد الصورة ، والصفا العقل ، والمروة العلم ، والمنى الحلم ، والمشعر الذكر ، والعرفات صفاء العبودية والمعرفة ، والمحرم المقامات والخالات ، والبادية النفس والهوى ، والحاج الروح المقدس.
وأما أسرار العاشقين أيضا : إذا حجت فكعبتها ذات القدمية جلّت عظمته ، وعزّ كبرياؤه ، ومناسكها مراتب السر في الصفات ، فإذا تجرّدت الأسرار في بيداء الأزل عن الأماكن والأزمان والحدثان ، استقبلت إلى عروس البقاء والسرمدية ، تحولها مطاف حظائر القربة على بساط الحشمة والانبساط ، فكل نفس منها لمّا نظره وشاهده وكاشفه فحجها منه إليه ، وعنه به ، وبه عنه ، ومنه له ، فشأنها عجيب ، ووجدها غريب.
وقيل : لم يخاطب عباده في شيء من العبادات بأن الله عليهم إلا الحج ، وفيه فوائد : أحدها أنه ليس من العبادات عبادة يشترك فيها المال والنفس إلا الحج ، فأخرجه بهذا الاسم.
وقيل : ما كانت فيه إشارات القيامة من تجريد ووقوف.