القدم.
وإذا خرجوا من أوطانهم بهذه الراحلة هجروا من الدنيا وما فيها ، واستعدوا أهبة الموت من جميع الخلائق من المعاشرين المتقاربين ، وأسرعوا في طريق الرياضة ، وألزموا أنفسهم كدح الجادين المجدين ، وتوجهوا بنعت الإخلاص إلى الله ، ولم يلتفتوا إلى غيره في طريقه من أهل الدثر والدبر والبتر ، وعزموا أن لا يجوزوا عن قصد السبيل إلى سبل دواعي الهوى والشياطين.
وإذا ركبوا مراكبهم يكون قائدهم الهدى ، وسائقهم التقوى ، ومنهجهم الصفا ، ورفيقهم المولى ، وعديلهم العلم ، وصحبهم الحلم ، الشوق يسوقهم في وادي العشق ، مؤنسهم الحنين ، ومطربهم الأنين ، بدر وقتهم الحبيب ، وإذا قربوا من وادي المحرم ساروا مسرعين من الشوق ، وقطعوها نادمين من الذنب ، وخرقوها سادمين إلى مشاهدة الرب ، متحسرين من فوت الأوقات ، هائمين في طلب الدرجات ، باكين دماء الحزن بالزفرات ، نائحين على أنفسهم بنعت العبرات.
وإذا أبلغوا رأس الوادي خلعوا ثوب الراحات ، وتجرّدوا عن جميع الشهوات ، ولبسوا إحرامهم التفريد ، واغتسلوا في بحر التجريد ، وتطهروا عن جمع شوائب العلل ، وإذا لبّوا سمعوا أصوات الرضا بنعت الوصلة والقربة ، ونداء الحق قبل كونهم في الأزل ، وإذا بلغوا عرفات صاروا متبطئين في قيود السكر ، لا فكاك لهم عنها إلا بستر الصحو ، فبين السكر والصحو هائمون ، وبين الهيبة والبسط حائرون ، يعرف لهم الحق جلّت عظمته حقائق المشاهدة ، وصفات المكاشفة ، وأظهر لهم مكنونات الغيوب ، ومضمرات القلوب ، وإذا وقفوا ، وقفوا راجين إلى لقاء الرحمن ، خائفين من القطيعة والهجران ، شاهدين مقام الحياء ، حاضرين مقام الفناء في رؤية البقاء ، وإذا وصلوا إلى مشعر الحرام ذكروا الله بنعمة رؤيته ، وذكرهم هناك غي اللسان وخجلة الجنان في قدم الرحمن ، مقشورين بين يديه ، مطرقين من التقصير ، منحنين من التفريط ، وإذا بلغوا المنى ذبحوا أنفسهم عن اللذات ، والشهوات ، وإذا رموا الجمرات رموا مجاهدتهم ورياضتهم وعبادتهم إلى كتم العدم ، لوصولهم مشاهدة القدم ، وإذا كسروا الحجارة كسروا معها شهوات بواطنهم ، وإرادات أنفسهم عن ممكنات أسرارهم ، وإذا حلقوا حلقوا عن باطنهم فضولات الوسواس ، وحب محمدة الناس ، وإذا دخلوا أرض الحرم علموا أنهم عند سرادق العظمة وأبواب الحضرة ، خاضعين من الإجلال ، ذائبين في نيران الكبرياء ، محرمين عما دون الله ، متأهبين للقائه ، لا يحل عليهم شيء من الأكوان قبل وصولهم إليه ؛ لأنهم في معادن الصمدية ، وصولة الصمدية تمنعهم عن علات الحدوثية ، وإذا دخلوا مكة أيقنوا أنهم في جواره ؛ لأن مكة بمنزلة الجنة ، ومن دخلها أمن من عقابه في جواره