قبلة لعباده ، ومرآة الكشوف لخواصه ، والاستطاعة في سبيله معرفته ، وقربه ورؤية ألطافه في سائر الأوقات ، واليقين في وعده ، والتوكل عليه في جميع الأمور والمراقبة ، ودوام الرعاية ، ومعرفة حفظه ، وكلايته جميع عباده ، ومحبته الصافية عن رعونة النفس ، وصدق القصد إليه بصفاء النية وطهارة القلب عما سواه ، زادهم دوام الذكر والفكر في الآية ، ونعمائه وقدرته الكاملة ورحمته الكافية ضدا ، وأمثال هذه المقامات استطاعة القاصدين إلى بيته انقطاع عن سبيل الرشاد ، وهلك في مهلكه العناد.
قال الله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أضاف الحج في أول الآية إلى نفسه ، ونزه نفسه في آخرها ، ليعلم أهل خبرة العبودية له شفقته على عباده ؛ لأن العبادة ترجع إليه بالثواب ، وهو منزه عن الأسباب.
والقاصدون إلى بيت الله تعالى على ثلاثة أقسام :
قسم منهم قاصدون إلى البيت بأموالهم ، وأنفسهم لطلب الثواب ، وقسم منهم القاصدون إلى البيت بقلوبهم الصافية عن الدنيا وما فيها ، لامتثال الأمر ولطلب مرضاة الرب.
ومنهم القاصدون إلى مشاهدة رب البيت بأرواحهم العاشقة لطلب حقائق المعرفة ، والقربة ، وصفاء الوصلة وزيادة مشهد التجلي والتدلي.
فأهل الظاهر يحرمون عن المحظورات ، ويحلون عن إحرامهم عند قضاء نسكهم وأداء فرضه ، وأهل الباطن يحرمون عن الكائنات والنظر إلى البريات ، ولا يحلون ما داموا في الدنيا إلى مشاهدة الذات ، وكشف الصفات ، فشتان بين من يحرم من المعهودات ، وبين من يحرم من المسكنات ، وشهود المكونات ، لكن بلاياه لا يحملها إلا مطاياه ، ألا ذهبوا وذهبت معهم البركات ، وغربت بغروبهم في مغارب الأبد شموس الكرامات ، وأقمار الآيات ، ذاع خبرهم في الآفاق ، وخفي أثرهم عن الآماق ، رحمة الله عليهم حياة ومماتا ، من الإشارة في قصور حجاج كعبة الحقيقة ، إذا أرادوا استقبال قلوبهم إلى نحو المقصود أعني بيت الله الحرام ، عقدوا بالحقيقة مع الله بنعت المحبة عقد المعرفة ، وفسخوا جميع العقود التي عقدوا في غير طريق الحق ، من إيثار سواه عليه ، وعهود النفس التي أخذت للرياء والسمعة ، وطلب العلو والشرف ، أعدوا السبل مواطن المشاهدة ، زاد الصدق في التوكل والإخلاص واليقين والزهد في تجارة الله ، وراحلة الصبر قوائمها الحمد ، ورأسها الحلم ، وبطنها الورع ، وسرجها التمكين ، وحزامها الاستقامة ، وزمامها التسليم ، وسوطها الأدب ، وأرضها الرضا ، وسماؤها اليقين ، وماؤها الفكر ، وعلفها الذكر ، ورياضها المكاشفة ، ومرعاها المشاهدة ، وتوجهها على شهود