فمتى يعتصم بالله عزوجل؟ والهداية منه في البداية توجب الاعتصام به في النهاية ، لا الاعتصام منك يوجب الهداية.
وأهل الاعتصام أربعة : المحب والعاشق والعارف والموحد ، أما اعتصام المحب فطرح نفسه على باب الحبيب ، عجزا وتضرعا لطلب الوصول إليه ، وهذا نعت العاجز في متعب الفراق المحترق في نيران الأشواق ، فإذا اعتصم بالحق على وصف غليان الحب ، والهيمان في الشوق ، فهداه الله إلى مشاهدة جماله ، وحسن عطفه وأفضاله ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه» (١).
وأما اعتصام العاشق ، فهو قطع العلائق من قلبه ، وإيثار المشاهدة على ما سواه ، فإذا تحقق في استغراقه في بحار العشق أرشده الله إلى مقام الأنس حتى سكن في أكناف ألطافه ، فهو بالحقيقة مكفوف من الاستدراج بعظمة الأزلية.
وأما اعتصام العارف ، فهو بمعرفته بمعروفه فإذا عرفه تحير فيه ، واعتصم بمعرفته عن النكرة تارة ، وبالنكرة عن المعرفة تارة ، والنكرة هاهنا العجز عن درك الإدراك إدراك ، وإذا تحير العارف في مهمة العظمة فأصفده الحق عطاء من علوم المجهول من لدنه ، فيرى بها مشاهدة الأسرار من حقائق غيب الغيب.
وأما اعتصام الموحد ، فاللياذة من الجهل على مشاهدة القدم بالعرفان على مشاهدة البقاء ، ومن الجهل على مشاهدة البقاء بالعرفان على مشاهدة القدم ، وإذا وجده الحق مضمحلا في ضباب عظمته وأنوار كبريائه هداه إلى طرف من حقائق الوحدانية ، ليسكن به جهلا لا علما ، وعلما لا جهلا ، وأمرا لا حكما ، وحكما لا أمرا.
هذا صفة المعتصمين من أهل الحق الذي نبذوا بطلق الوجوه جميع رسوم الحدثان من الدنيا والآخرة ، راجين إليه خائفين منه ، حيارى سكارى ، لا تلتفتون منه إلى غيره من غلبة اليقين على قلوبهم ، ولا يرضون بشيء سوى محبوبهم ، فهم معصومون عن الخطرات في البواطن ، محصونون على العثرات في الظواهر.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
__________________
(١) رواه البخاري (٦١٤٢) ، ومسلم (٢٦٨٣).