وسلم من العداوات ، هناك حبال الاعتصام التي انعقدت بها رهن المؤاخاة ، وتعارفت أرواح العاشقات ؛ لأن وحشة التفرقة يكون في الغيبة ، وحقيقة الجمعية يكون في مشهد المشاهدة.
قال سهل : تمسّكوا بعهده ، وعهده التوحيد.
وقال أبو يزيد : ما لم تفقد نفسك ولا تعتصم بخالقك لا يستجاب لك ، ومتى كنت وسط الأمور فالمخلوق لا يهتدي إلى الخالق ، فإذا طرحت عنك كنت معتصما به.
وقيل : الاعتصام إليه هو ميل القلب بالوفاء ، وأداء الفرائض بغير تقصير.
قال ابن عطاء : حبل الله متّصل بعبده يتوقع منه المزيد والفوائد في كل وقت ، وحبله عهده وكناية فمن اعتصم به وصل.
سئل الجنيد عن قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) قال : قالت المتصوفة : هو خصوص وعموم ، أمّا قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) معناه : اعتصموا بالله عن الاعتصام بحبل الله ، وقيل : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) اجتمعوا على موافقة الرسول صلىاللهعليهوسلم أنه الحبل الأوثق ولا تفرقوا عنه ظاهرا وباطنا ، سرا وعلانية.
وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، بأن هداكم إلى نفسه بنعت المعرفة والمحبة (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) أي : إذ كنتم من مشاهدة التوحيد في حجاب النكرة تحت غمام البشرية عن رؤية القرب والمشاهدة ، وحين كنت تحت ذل الكفر ، بتضييعكم حق الله وحق الأخوة ، وطلبكم حظوظ أنفسكم بترك حظوظ الإخوان ، وسبب كون العداوة بينهم عزلهم عن لباس المعرفة ، فإذا كسى الله أسرارهم خلع أنوار قربه ، وباشرت قلوبهم حقائق الوصلة ، رأى بعضهم على بعض أثر جمال الحق عشقت أرواحهم بعضها على بعض ، كما قال تعالى : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ٧] وما شرحت فهو معنى قوله تعالى : (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً).
وأيضا فألّف بين قلوبكم بنور عصمته ، وكشف جمال حضرته ، حتى وصلوا بأجمعهم حقائق مكاشفات الوصال ، فذاقوا من كأس المنّة شراب الألفة ، وطابوا بجمال الحبيب ، وارتفعت عن بواطن قلوبهم غشاوة الوحشة ، فصار عيشهم عيشا واحدا ، ومذهبهم مذهبا واحدا ، وحظهم حظا واحدا.
وجمعهم الله على عيون الإخلاص حتى يطهروا فيها من دنس الأخلاق ، وأوساخ الطبائع ، ولبسوا منها أثواب التالف ، وإخلاصهم تخلصهم عن أسرار المكونات ، ورفع عن أسرارهم أخطار التفرقة ، فجمعهم في عين الجمع كنفس واحدة ، فأحوالهم أورثهم الوفاء ،