وإخلاصهم ألبس أسرارهم الصفاء ، فبين الوفاء والصفاء صاروا في الأخوة صادقين ، وفي المحبة مخلصين ، وفي الصحبة منصفين ، وفي المصادقة موقنين ، وفي الجملة الألفة بين قلوب الأصفياء بالتفاوت على مرسوم المقامات ، ومراتب الحالات (١).
وافهم أن الله تعالى إذا جمع الأرواح في مشاهدة قربة بعد إنشائها ، فأكرمها بعضا بإدراك مقام التوحيد ، وبعضا بمقام المعرفة ، وبعضا بمقام المحبة ، وبعضا بمقام المكاشفة ، وبعضا بمقام المشاهدة ، وبعضا بمقام الأنس والوجد والحالات ، والألفة بينهم على قدر قران مقاماتهم بعضها بعضا ، وجعل الجميع بعضهم على بعض رحمة وهداية وعصمة ، كما قال عليهالسلام : «المرء كبير بأخيه» (٢).
وقال عليهالسلام : «المؤمنون كالبنيان تشد بعضهم بعضا» (٣).
فمن وافق في مشهد الأزل على مدارج جميع المقامات صار بين الأقران محبوبا ومعشوقا وإماما بما وجد أصول حقائق القوم وإدراك حقيقة مقاماتهم ، ومن لم يبلغ جميع المقامات صار حاله بخلاف ذلك ، فالتآلف أوصاف الأولين ، والتناكر نعوت الآخرين ؛ لأنّ أرواحهم احتجبت بعضهم بعضا ، كما قال صفير الصفات ، وسفير مشاهد أسرار الذات ، سيد البريات ، وقائم قوائم مهاد الأزليات ، صلوات الرحمن عليه : «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» (٤).
قيل : كنتم أعداء بملازمة حظوظ أنفسكم ، فألّف بين قلوبكم ، وأزال عنكم حظوظ النفس وردكم منها إلى حظ الحق فيكم.
وقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي : كنتم في قعر بحار غضب الأزل امتحانا لا حقيقة ، فأنقذكم منها عصمة رضا القدم المنعوت بعناية شرفكم ، واصطفاء نيتكم بالمعارف والكواشف ، وذاك قوله : «سبقت رحمتي غضبي» (٥).
وأيضا أي : كنتم محجوبين بعوارض بشريتكم ، محترقين بنيران شهواتكم ، فأنقذكم منها أنوار المعرفة ، وسنا الأزلية ، وضياء القربة ، وأذاقكم طعم شراب وصلته ، حتى صرتم في طلب مزيد الوصال إخوان كل عاشق محب صادق في طلب رضاه.
__________________
(١) بالخلاص من أسر المكونات ، ودفع الأخطار عن أسرارهم ، فصار مقصودهم جميعا واحدا ؛ فلو ألّف ألف شخص في لب واحد ـ فهم في الحقيقة واحد. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٦٥).
(٢) ذكره ابن حجر في «لسان الميزان» (٧ / ١١٥).
(٣) رواه البخاري (٤٦٧) ، ومسلم (٢٥٨٥).
(٤) رواه البخاري (٣١٥٨) ، ومسلم (٢٦٣٨).
(٥) رواه البخاري (٧١١٤) ، وأحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢).