قال الواسطي : أي كونوا كأبي بكر لما كانت لنسبته إلى الحق أتم لم يؤثر عليه فقدان السبب ولما ضعف نسبتهم أثّر عليهم ، فعمر بن الخطاب قال : «من قال مات محمد ضربت عنقه» ، وأبو بكر نظر إلى ما دلّ عليه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، فقرأ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ).
قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) إنّ الله سبحانه خلق قلوب هذه الأمة وقت إيجادها في رؤية جمال القدم ، ونورها بالحسن والرجاء ، وأخرج أرواحها من العدم إلى عالم البسط والسرور ، وسنا المشاهدة والسماع والحور ، وألبسها خلق اللطف ، فصارت مستعدة لرؤية الألطاف قابلة نور الأنس ، ومن كمال حكمة الله ولطفه علينا خلق نبينا صلىاللهعليهوسلم على خلق البسط وروح الإنس ، فوافقت المرافقة ، وحصلت في البين أهلية ، ودانت الأرواح وقربت الأشباح ، فبقيت الحشمة وفنيت الغلظة ، وصار رحمة تامة لهذه الأمة المرحومة ، وتصديق ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) تبيّن من الخطاب لطف الجانبين نسب الفعل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وإن كان غير متكلف في التليين ؛ لأنّه كان مخلوقا باللطف والكرم من الله ، وفيها الإشارة إلى تأديب الصحابة ، أي لو كان النبي صلىاللهعليهوسلم يدقق عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ، ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ، ولكن سامحهم بالشريعة والرخص بحقائق ما أوجبه الله عليهم ، وتصديق ذلك قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فالعفو والاستغفار من مسامحة الله لهم ، فاعف عنهم تقصيرهم قلّة عرفانهم أقدارك ، واستغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة ، وما يجري على صورهم من الحركات التي لا تليق بصحبتك ومجالستك ؛ لأنك مستغرق في الربوبية ، وهم يطلبونك في مقام العبودية ، وهم في وصف المحبة والإرادة ، فأنت في محل التوحيد مشاهد مطالع شموس الآزال وأقمار الآباد (١).
قال الواسطي في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) : جميع أوصافك وما يخرج من أنفاسك رحمة مني عليك وعلى من اتبعك.
وقال ابن عطاء : لما علا خلقه جميع الأخلاق عظمت المؤنة عليه ، فأمر بالغض والعفو والاستغفار.
__________________
(١) جرّده عن أوصاف البشرية ، وأفرده بما ألبسه من نعت الربوبية ، وأخبر أن ما يلوح إليه فمن أنوار التولي ، لا من آثار الوفاق والتبري ، ولو لا أنه استخلقه بما ألبسه وإلا متى كان بتلك الصفة؟! انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٠٩).