قال الحارث المحاسبي في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) : نسب ما كان منه في ذلك من اللين والمداراة إلى نفسه بقوله : برحمتي لنت لهم ، وما كان الله يقول لنبيه صلىاللهعليهوسلم : إنك لنت لولا إنه لينه بمعرفته ووفّقه للمداراة.
قال الفارسي : انظر كيف وصف الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم باللين والشفقة ، ثم عرّاه عن أوصافه فقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وذاك حق قيامك بنا وهجرانك الخلق أجمع.
قال الأستاذ : يقال : إن من خصائص رحمته سبحانه عليه أن قواه حتى صحبهم ، وصبر على تبليغ الرسالة مع الذي كان يقاسيه من أخلاقهم مع سلطان ما كان مستغرقا له ، ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه ، فلولا قوة الإلهية استأثره الحق بها ، وإلا متى أطاق صحبتهم ، ألا ترى إلى موسى عليهالسلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه ، كيف له يصير على مخاطبة أخيه (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) [الأعراف : ١٥٠].
وقال الأستاذ في قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ ، لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة.
وقوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) إذا كان في محل العبودية وأمور الشريعة وعالم العقل أمر لله بحسن معاشرته معهم واستبشارهم في وقائع مستقبلات القدر ، كيف يقبلونها بالعقول والقلوب بنعت التفكر والصبر في أحكامه ؛ لأنهم كانوا يشربون من سواقي بحاره ، ولأنهم في مقام الولاية ، وهو في مقام الرسالة والنبوة وهما واحد في عين الجمع ، يرون الغيب بنور الفراسة ، وهو يراه بأنوار النبوة والرسالة ، وكان عليهالسلام يحتاج في محل العبودية إلى نصرة الصحابة له في الدين.
وإذا كان في مشاهدة الربوبية ، وخرج من التفرقة إلى الجميع ، أمره الله سبحانه بإفراد القدم عن الحدث ؛ حيث تجرد في سيره عما لله إلى الله بقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنه حسبك فيما يريد منه.
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣))