وعقله ، وامتلأ من سنا الألوهية أسراره حين انعقد عقد وجوده ، كاد الحال أن يسلبه من رؤية العبودية ، فأدركه تأييد الحق حتى رأى الحدث محوا في القدم ، فلم يدّع الربوبية ، ونطق في المهد بالعبودية بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] ، لم يكن كابن الحلاج ـ رحمة الله عليه ـ حين ادّعى بالأنائية من سكر العشق والمحبة ، وفنائه في الأزلية ، واتصافه بالأبدية ؛ لأنه كان في منزل التلوين ، بل حاله كان كحال سيد البشر صلىاللهعليهوسلم حين عاين الحق بالحق ، فخرج من بحار الذات بنعت الاتصاف بالصفات ، ورأى اضمحلال الحدثان في جمال الرحمن ، فنطق بالعبودية وقال : «أنا العبد لا إله إلا الله» (١) ، وهكذا أهل القدس في الملكوت تلاشوا في سبحات عزّته ، وقالوا : «ما عبدناك حقّ عبادتك ، وما عرفناك حقّ معرفتك» (٢) ، وكيف لا يكون ذلك وقهر الجبروت استولى على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، وجرها بأزمة العظمة والكبرياء في تراب ساحات عزّته ، راغمة في جناب جبروته والألفة من عبادة صانعها مستجبلة! لأن كونها وتكوينها محض عبادته ، لأنها تكون بداعية القدم من العدم ، خصّ ذكر عيسى عليهالسلام والملائكة لأنهما موضع إشارة الكفرة نسبتهم إلى الألوهية ذكر عيسى عليهالسلام بالأول وأتم ذكر الملائكة.
وبين ظاهر الآية تخصيص الملائكة على عيسى عليهالسلام ، والمراد من ذلك أنهم سماويون نجباء الحضرة وأشياخ القدرة ؛ لأنهم أفضل من عيسى عليهالسلام ، وأشار بوفق رسوم خواطر الكفرة ، وإلا كيف يكون هم أفضل من الأنبياء ، والأنبياء جلاليون قدسيون ، والملائكة روحانيون ملكوتيون قبل ، لا يأنف أحد من القيام بالعبودية ، فكيف يأنف منه وبه يتقرب إلى مولاه.
وقيل : كيف يأنف أحد من عبودية من يظهر على العبيد آثار صنائع الربوبية كما أظهر على عيسى عليهالسلام من إحياء الموتى وغيره.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا
__________________
(١) ذكره ابن عجيبة في «البحر المديد» (٢ / ٤٥٣).
(٢) رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (٢ / ١٨٤).