(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩))
قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) غيبة ذاته القدمي ، وهو خزانة أسرار الآزال والآباد ، ومفاتيحها صفاته الأزلية ، لا يعلم صفاته وذاته بالحقيقة إلا هو تعالى بنفسه ، فنفى الغير عن البين ؛ حيث لا حيث ولا بين ، فمن إشارة الأحدية المفتاح والخزانة واحد ؛ لأنه منفرد بصفاته وذاته عن الجمع والتفرقة.
قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] ، قال : علمه مفاتيح الغيب خمس ، لا يعلمها إلا الله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى قوله : (عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
قال السدي من كبار المفسرين : (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) خزائن الغيب.
وأيضا : مفاتح الغيب عنده أنوار عنايته الأزلية التي سبقت منه بنعت الكرم والفضل لأنبيائه وأوليائه وملائكته ، وغيبة ذاته وصفاته تعالى ؛ لأنه كنزه القديم الباقي ، ألا ترى إلى قوله : «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف» (١).
فيفتح بلطفه بتلك الأنوار الأزلية التي سماها المفاتيح لهم أبواب خزائن صفاته وذاته ؛ ليعرفوا كنز القدم بأنوار القدم ، وهو تعالى يظهر مكنون أسراره من ذاته وصفاته لهم ، وهم يستخرجون من بحار الذات والصفات جواهر علومه الأزلية والأبدية ؛ ليوضحوا بأنوارها طرق العبودية لعباده ، ويبينوا مدارك المعاملات ومراقي الحالات لهم.
وقوله : (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أي : لا يعلم الأولون والآخرون قبل إظهاره تعالى ذلك لهم ، ولا يعلم حقائق أقدارها إلا هو ؛ لأنه تعالى عرف قدره بالحقيقة لا غير.
وأيضا : لا يعرف طريق وجدانها والوسيلة إليها إلا هو ، هو بذاته تعالى عرّف طرقها لأهلها ، قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧].
وأيضا : له مفاتيح الغيب ، ومن تلك المفاتيح التي يعطي قاصديه وطالبيه في بدء شأنهم ما داموا صادقين ، هي المعاملات السنية ، والمقامات الشريفة التي يستفتح بها لهم خزائن الملكوت والجبروت ، ويستخرج منها أنوار المحبة والشوق والعشق والمعرفة ودرجاتها ،
__________________
(١) ذكره المناوي في «التعاريف» (١ / ٥٦٨) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ١٧٣) بنحوه.