البحرين بحر الهيبة ، وبحر الإجلال ، والإجلال يورّث لها الخوف ، والهيبة تورث لها الحياء وهما أخصّ صفات المحبّين ، وصفة الجلال شاملة لصفة الجمال ، والجمال يظهرها في الجلال ؛ لذلك استروحت تلك الهمم في أوقات عن برحاء الجلال ، وكلّ محبّ لم يبلغ مشاهدة الجلال لم يبلغ إلى درجة المحبّة بالكمال.
وتلك الهمة تنصرف بذاتها عن ذلك المقام تارة إلى محلّ الجمال ؛ لاقتباس نور الشوق والعشق ؛ لأن الجلال والجمال مصدرهما عين واحد ، وإن كان تأثيرهما في التجلّي والمباشرة مختلفا.
وأما انفتاح عين القدرة لأفئدة الموقنين ، وهي بكشوفها تزيد أنوار الإيقان للموقنين ؛ ولذلك قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥].
ومشربها تجري على سوابق الآيات ، والأفعال في حدود الالتباس ، ونحلت نفس الصفة صرفا بغير رؤية الآيات إذا كان صرفا ، فهي توجب العرفان ، وإذا لم تكن صرفا توجب الإيقان ، وكيف يكون الموقن موقنا ، ولم يشرب فؤاده من هذين السقيين ، وأفئدة الموقنين هامت من سكرها من شرب سلسبيل عين القدرة ، ولا يرجع منها إلا بعد الاستيفاء منها إلى أعلى المقامات من شهود العين ، ورؤية جميع الصفات ، فهي على نعت الترقّي ؛ لأنّ تأثير القدرة في الأشياء على نعوت التغاير ، وإن كانت عينها مقدسة من علّة التلوين.
وأما انفتاح عين العلوم الأزلية اللدنية لخواطر المكاشفين ، وذلك أن عرائس الغيوب بلباس المعلوم تنكشف لخواطر المكاشفين ، وهي تورّث لعيونها مشاهدة الصفات والذات ، وتورث من فوائد وجدان نضارتها وبهجة سناها علوم المعارف الإلهية ، كلّ كشف بغير علم لا يكون على حد الكمال والعلم إلا تفارق الكشف ؛ لأن الكشف محلّ الخطاب ، والخطاب يوجب العلم ، لكن ربما تلوح بوادي الكشوف لضعفاء الطريق بالبديهة ، ولا يفهمون عنها أنباء العجيبة الإلهية.
وكلّ خاطر لم يشرف على هذين المنزلين ، فهو ناقص عن محلّ الربانيّة ، وتلك الخواطر معادنها علوم الأزلية ، مستلذة دقائق العلوم من حيث حلاوة الكشف ، وحلاوة الخطاب.
وأما انفتاح عين السمع لصدور المشاهدين يوجب لها أسماع الإلهية التي تسمع لها أصوات جريان أقلام القضاء والقدر من العرش إلى الثرى ، وتسمع من الحقّ بسمع الحق ما يقول الحق ، قال تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧].
وتلك الصدور حاضرة الغيب ، لا تحس لهواجس النفوس ، واصطكاك غيوم ظلام