(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي) لهم إلى عبادتك وطاعتك (إِلَّا فِراراً) أى : إلا تباعدا من الإيمان وإعراضا عنه. والفرار : الزّوغان والهرب. يقال : فر فلان يفر فرارا ، فهو فرور ، إذا هرب من طالبه ، وزاغ عن عينه.
والتعبير بقوله : (دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) ، يشعر بحرص نوح التام على دعوتهم ، في كل وقت يظن فيه أن دعوته لهم قد تنفع.
كما أن التعبير بقوله : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) يدل دلالة واضحة على إعراضهم التام عن دعوته ، أى : فلم يزدهم دعائي شيئا من الهدى ، وإنما زادهم بعدا عنى ، وفرارا منى.
وإسناد الزيادة إلى الدعاء ، من باب الإسناد إلى السبب ، كما في قولهم : سرتنى رؤيتك.
وقوله (فِراراً) مفعول ثان لقوله (فَلَمْ يَزِدْهُمْ) والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال والمستثنى منه مقدر ، أى : فلم يزدهم دعائي شيئا من أحوالهم التي كانوا عليها إلا الفرار.
ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا. أى : فلم يزدهم دعائي قربا من الحق ، لكن زادهم فرارا منه.
ثم أضاف إلى فرارهم منه ، حالة أخرى. تدل على إعراضهم عنه ، وعلى كراهيتهم له ، فقال : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً).
وقوله : (كُلَّما) معمول لجملة : (جَعَلُوا) التي هي خبر إن ، واللام في قوله (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) للتعليل.
والمراد بأصابعهم : جزء منها. واستغشاء الثياب معناه : جعلها غشاء ، أى : غطاء لرءوسهم ولأعينهم حتى لا ينظروا إليه ، ومتعلق الفعل «دعوتهم» محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، وهو أمرهم بعبادة الله وتقواه.
والمعنى : وإنى ـ يا مولاي ـ كلما دعوتهم الى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به ، لكي تغفر لهم ذنوبهم .. ما كان منهم إلا أن جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قولي ، وإلا أن وضعوا ثيابهم على رءوسهم. وأبصارهم حتى لا يرونى ، وإلا أن (أَصَرُّوا) إصرارا تاما على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) عظيما عن قبول الحق.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد صورت عناد قوم نوح ، وجحودهم للحق ، تصويرا بلغ الغاية في استحبابهم العمى على الهدى.