فهي ـ أولا ـ جاءت بصيغة «كلما» الدالة على شمول كل دعوة وجهها إليهم نبيهم نوح ـ عليهالسلام ـ أى : في كل وقت أدعوهم إلى الهدى يكون منهم الإعراض.
وهي ـ ثانيا ـ عبرت عن عدم استماعهم إليه بقوله ـ تعالى ـ : (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ). وعبر عن الأنامل بالأصابع على سبيل المبالغة في إرادة سد المسامع ، فكأنهم لو أمكنهم إدخال أصابعهم جميعها في آذانهم لفعلوا. حتى لا يسمعوا شيئا مما يقوله نبيهم لهم.
فإطلاق اسم الأصابع على الأنامل من باب المجاز المرسل ، لعلاقة البعضية ، حيث أطلق ـ سبحانه ـ الكل وأراد البعض ، مبالغة في كراهيتهم لسماع كلمة الحق.
وهي ـ ثالثا ـ عبرت عن كراهيتهم لنبيهم ومرشدهم بقوله ـ تعالى ـ : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أى : بالغوا في التّغطّى بها ، حتى لكأنهم قد طلبوا منها أن تلفهم بداخلها حتى لا يتسنى لهم رؤيته إطلاقا.
وهذا كناية عن العداوة الشديدة ، ومنه قول القائل : لبس لي فلان ثياب العداوة.
وهي ـ رابعا ـ قد بينت بأنهم لم يكتفوا بكل ذلك ، بل أضافوا إليه الإصرار على الكفر ـ وهو التشديد فيه ، والامتناع من الإقلاع عنه مأخوذ من الصرّة بمعنى الشدة ـ والاستكبار العظيم عن الاستجابة للحق.
فقد أفادت هذه الآية ، أنهم عصوا نوحا وخالفوه مخالفة ليس هناك ما هو أقبح منها ظاهرا ، حيث عطلوا أسماعهم وأبصارهم ، وليس هناك ما هو أقبح منها باطنا ، حيث أصروا على كفرهم ، واستكبروا على اتباع الحق.
ومع كل هذا الإعراض والعناد .. فقد حكت لنا الآيات بعد ذلك ، أن نوحا ـ عليهالسلام ـ قد واصل دعوته لهم بشتى الأساليب. فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً).
وقوله : (جِهاراً) صفة لمصدر محذوف ، أى : دعوتهم دعاء جهارا. أى : مجاهرا لهم بدعوتي ، بحيث صارت دعوتي لهم أمامهم جميعا.
(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) تارة (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) تارة أخرى.
أى : أنه ـ عليهالسلام ـ توخى ما يظنه يؤدى إلى نجاح دعوته ، وراعى أحوالهم في ذلك ، فهو تارة يدعوهم جهرا ، وتارة يدعوهم سرا ، وتارة يجمع بين الأمرين.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا ، ثم دعاهم جهارا ، ثم