ثم حكى ـ سبحانه ـ حالهم عند ما سمعوا ما يهديهم إلى الرشد ... فقال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً ...).
أى : وأننا لما سمعنا الهدى ، أى : القرآن من النبي صلىاللهعليهوسلم (آمَنَّا بِهِ) بدون تردد أو شك (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) وبما أنزله على نبيه صلىاللهعليهوسلم (فَلا يَخافُ بَخْساً) أى : نقصا في ثوابه (وَلا رَهَقاً) أى : ولا يخاف ـ أيضا ـ ظلما يلحقه بزيادة في سيئاته ، أو إهانة تذله وتجعله كسير القلب ، منقبض النفس.
فالمراد بالبخس : الغبن في الأجر والثواب. والمراد بالرهق : الإهانة والمذلة والمكروه.
والمقصود بالآية الكريمة إظهار ثقتهم المطلقة في عدالة الله ـ تعالى ـ.
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) تأكيد وتفصيل لما قبله.
والقاسطون : هم الجائرون الظالمون ، جمع قاسط ، وهو الذي ترك الحق واتبع الباطل ، اسم فاعل من قسط الثلاثي بمعنى جار ، بخلاف المقسط فهو الذي ترك الباطل واتبع الحق.
مأخوذ من أقسط الرباعي بمعنى عدل.
أى : وأنا ـ معاشر الجن ـ (مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) الذين أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة.
(وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أى : الجائرون المائلون عن الحق إلى الباطل.
(فَمَنْ أَسْلَمَ) منا (فَأُولئِكَ) المسلمون (تَحَرَّوْا رَشَداً) أى : توخوا وقصدوا الرشد والحق.
(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) وهم الذين آثروا الغي على الرشد (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أى : وقودا لجهنم ، كما توقد النار بما يلقى فيها من حطب وما يشبهه.
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت أقوالا متعددة ، لهؤلاء النفر من الجن ، الذين استمعوا إلى القرآن ، فآمنوا به ، وقالوا لن نشرك بربنا أحدا.
ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف ، وهي أن الاستقامة على طريقه توصل إلى السعادة ، وأن الإعراض عن طاعته ـ تعالى ـ يؤدى إلى الشقاء ، وأمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يعلن للناس حقائق دعوته ، وخصائص رسالته ، وإقراره أمامهم بأنه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، وأن علم الغيب مرده إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، فقال ـ سبحانه ـ :