وقوله : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) ، تشبيه بليغ. والطرائق : جمع طريقة ، وهي الحالة والمذهب.
وقددا : جمع قدّة ، وهي الفرقة والجماعة من الناس ، الذين تفرقت مشاربهم وأهواؤهم.
والجملة الكريمة بيان وتفسير لما قبلها.
أى : وأنا في واقع أمرنا منا الصالحون الأخيار ... ومنا من درجته ورتبته أقل من ذلك بكثير أو بقليل ... فنحن في حياتنا كنا قبل سماعنا للقرآن كالمذاهب المختلفة في حسنها وقبحها ، وكالطرق المتعددة في استقامتها واعوجاجها ... أما الآن فقد وفقنا الله ـ تعالى ـ إلى الإيمان به ، وإلى إخلاص العبادة له ...
ومن وجوه البلاغة في الآية الكريمة ، أنهم قالوا : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ، ليشمل التعبير من هم دون الكمال في الصلاح ، ومن هم قد انحدروا في الشرور والآثام إلى درجة كبيرة ، وهم الأشرار.
والمقصود من الآية الكريمة ، مدح الصالحين ، وذم الطالحين ، ودعوتهم إلى الاقتداء بأهل الصلاح والتقوى والإيمان.
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه بشأن عجزهم المطلق أمام قدرة خالقهم فقال : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً).
والظن هنا بمعنى العلم واليقين. وقوله : (نُعْجِزَهُ) من الإعجاز ، وهو جعل الغير عاجزا عن الحصول على ما يريد. وقوله (فِي الْأَرْضِ) و (هَرَباً) في موضع الحال.
أى : وأننا قد علمنا وتيقنا بعد إيماننا وبعد سماعنا للقرآن ... أننا في قبضة الله ـ تعالى ـ وتحت قدرته ، ولن نستطيع الهرب من قضائه سواء كنا في الأرض أم في غيرها.
فقوله : (فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى عدم قدرتهم على النجاة من قضائه ـ تعالى ـ مهما حاولوا اللجوء إلى أية بقعة من بقاعها ، ففي أى بقعة منها يكونون ، يدركهم قضاؤه وقدره.
وقوله : (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) إشارة إلى أن هربهم إلى السماء لا إلى الأرض ، لن ينجيهم مما يريده ـ سبحانه ـ بهم.
فالمقصود بالآية الكريمة : إظهار عجزهم المطلق أمام قدرة الله ـ تعالى ـ وعدم تمكنهم من الهرب من قضائه ، سواء ألجأوا إلى الأرض ، أم إلى السماء.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).