قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين : «يخبر الله ـ تعالى ـ عن الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم وأنزل عليه القرآن ، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وحفظت من سائر أرجائها ، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك ، لئلا يسترقوا شيئا من القرآن ، فيلقوه على ألسنة الكهنة ، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق ، وهذا من لطف الله بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز ، ولهذا قالت الجن : «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» أى : من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا ، لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يمحقه ويهلكه» (١).
وقال بعض العلماء : والصحيح أن الرجم كان موجودا قبل المبعث. فلما بعث صلىاللهعليهوسلم كثر وازداد ، كما ملئت السماء بالحرس والشهب. وليس في الآية دلالة على أن كل ما يحدث من الشهب إنما هو للرجم ، بل إنهم إذا حاولوا استراق السمع رجموا بالشهب ، وإلا فالشهب الآن وفيما مضى قد تكون ظواهر طبيعية ولأسباب كونية ... (٢).
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه على سبيل الإقرار بأنهم لا يعلمون شيئا من الغيوب فقال : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً).
أى : وقال هؤلاء الجن المؤمنون على سبيل الاعتراف بأن مرد علم الغيوب إلى الله ـ تعالى ـ وحده : قالوا وإنا لا ندري ولا نعلم الآن ، بعد هذه الحراسة المشددة للسماء ، أأريد بأهل الأرض ما يضرّ بهم ، أم أراد الله ـ تعالى ـ بها ما ينفعهم؟.
قال الآلوسى : ولا يخفى ما في قولهم هذا من الأدب ، حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله ـ تعالى ـ ، كما صرحوا به في الخير ، وإن كان فاعل الكل هو الله ـ تعالى ـ ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد ... (٣).
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه في وصف حالهم وواقعهم فقال : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ....) أى : منا الموصوفون بالصلاح والتقوى ... وهم الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، ولم يشركوا معه في العبادة أحدا ...
(وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أى : ومنا قوم دون ذلك في الصلاح والتقوى ... وهم الذين فسقوا عن أمر ربهم ، ولم يستقيموا على صراطه ودينه.
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٦٧.
(٢) تفسير صفوة البيان ج ٢ ص ٤٧٢ لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.
(٣) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٨٨.