وقوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ...) بدل اشتمال من جملة : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ ...) ، أو هو كلام مستأنف لبيان الحكمة التي من أجلها خفف الله على المسلمين قيام الليل.
أى : صلوا من الليل على قدر استطاعتكم من غير تحديد بوقت ، فالله ـ تعالى ـ يعلم أنكم لا تستطيعون ضبط ساعات الليل ولا أجزائه ، فخفف عنكم لذلك ، ولعلمه ـ أيضا ـ أن منكم المرضى الذين يعجزون عن قيام ثلثى الليل أو نصفه أو أقل من ذلك بقليل.
ومنكم ـ أيضا ـ الذين (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) أى : يسافرون فيها للتجارة وللحصول على مطالب الحياة ، وهم في كل ذلك يبتغون ويطلبون الرزق من فضله ـ تعالى ـ. ومنكم ـ أيضا ـ الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله ، ويجاهدون من أجل نشر دينه ومادام الأمر كذلك ، فقد أبحت لكم ـ بفضلي وإحسانى ـ أن تصلوا من الليل ما تيسر لكم.
وقد جمع ـ سبحانه ـ بين السعى في الأرض لطلب الرزق ، وبين الجهاد في سبيله ، للإشعار بأن الأول لا يقل في فضله عن الثاني ، متى توفرت فيه النية الطيبة ، وعدم الانشغال به عن ذكر الله ـ تعالى ـ.
قال الإمام القرطبي : سوى الله ـ تعالى ـ في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال ، للنفقة على النفس والعيال .. فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد في سبيل الله.
وفي الحديث الشريف : ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد ، فيبيعه بسعر يومه ، إلا كانت منزلته عند الله كمنزلة الشهداء. ثم قرأ صلىاللهعليهوسلم هذه الآية .. (١).
وأعيدت جملة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) لتأكيد التيسير والتخفيف وتقريره ، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أى : وأدوها كاملة الأركان والخشوع والسنن .. في وقتها بدون تأخير.
(وَآتُوا الزَّكاةَ) أى : قدموها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهما.
قال ابن كثير : أى : أقيموا الصلاة الواجبة عليكم ، وآتوا الزكاة المفروضة ، وهذا يدل
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٥٥.