أى : فإذا جاءت الصيحة العظيمة التي بعدها يخرج الناس من قبورهم للحساب والجزاء ، كان ما كان من سعادة أقوام ، ومن شقاء آخرين.
وقوله ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) بدل مما قبله وهو قوله (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) والفرار : الهروب من أجل التخلص من شيء مخيف.
والمعنى : يوم يقوم الناس من قبورهم للحساب والجزاء يكونون في كرب عظيم ، يجعل الواحد منهم ، يهرب من أخيه الذي هو من ألصق الناس به ، ويهرب كذلك من أمه وأبيه ، ومن صاحبته ـ وهي زوجه ـ وبنيه الذين هم فرع عنه.
والمراد بفراره منهم : عدم اشتغاله بشيء يتعلق بهم ، وعدم التفكير فيهم وفي الالتقاء بهم ، لاشتغاله بحال نفسه اشتغالا ينسيه كل شيء سوى التفكير في مصيره ... وذلك لشدة الهول ، وعظم الخطب.
وخص ـ سبحانه ـ هؤلاء النفر بالذكر ، لأنهم أخص القرابات ، وأولاهم بالحنو والرأفة ، فالفرار منهم لا يكون إلا في أشد حالات الخوف والفزع.
قال صاحب الكشاف : «يفر» منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه ، ولعلمه بأنهم لا يغنون عنه شيئا : وبدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين ، لأنهم أقرب وأحب ، كأنه قال : يفر من أخيه ، بل من أبويه ، بل من صاحبته وبنيه ... (١).
وجملة : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) مستأنفة. واردة لبيان سبب الفرار. وللمبالغة في تهويل شأن هذا اليوم.
أى : لكل واحد منهم في هذا اليوم العظيم ، شأن وأمر يغنيه ويكفيه عن الاشتغال بأى أمر آخر سواه. يقال : فلان أغنى فلانا عن كذا ، إذا جعله في غنية عنه.
وقد ساق ابن كثير ـ رحمهالله ـ عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث ، منها ما رواه النسائي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تحشرون حفاة عراة غرلا» ـ بضم فسكون ـ جمع أغرل ، وهو الأقلف غير المختون ـ قال ابن عباس : فقالت زوجته : يا رسول الله ، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال : «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه». أو قال : «ما أشغله عن النظر» (٢).
ثم بين ـ سبحانه أقسام الناس في هذا اليوم فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٠٥.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٤٩.