وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم ، ويتحامل فيه عليهم ، أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك.
ويجوز أن يتعلق «على» بيستوفون ، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية. أى : يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها.
وقال الفراء : «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضوع ، لأنه حق عليه ، فإذا قال : اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك. وإذا قال : اكتلت منك ، فكقوله : استوفيت منك ... (١).
والتعبير بقوله : (يَسْتَوْفُونَ) و (يُخْسِرُونَ) يدل على حرصهم الشديد فيما يتعلق بحقوقهم. وإهمالهم الشنيع لحقوق غيرهم ، إذ استيفاء الشيء ، أخذه وافيا تاما ، فالسين والتاء فيه للمبالغة.
وأما (يُخْسِرُونَ) فمعناه إيقاع الخسارة على الغير في حالتي الكيل والوزن وما يشبههما.
ثم أتبع ـ سبحانه ـ هذا التهديد للمطففين. بما يجعل الناس يتعجبون من أحوالهم ، فقال ـ تعالى ـ :
(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).
والهمزة للاستفهام التعجيبى من أحوالهم ، والجملة مستأنفة مسوقة لتفظيع ما فعلوه من بخس الناس أشياءهم. وأدخلت همزة الاستفهام على «لا» النافية لزيادة التوبيخ والإنكار ، حتى لكأن سوء عاقبة التطفيف لا تخطر لهم على بال.
والظن هنا مستعمل في معناه الحقيقي ، وهو اعتقاد الشيء اعتقادا راجحا.
وقال ـ سبحانه ـ : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ ...) ولم يقل : ألا يظنون ، لقصد تمييزهم والتشهير بهم ، زيادة في ذمهم ، وفي تقبيح أفعالهم.
أى : أبلغت الجرأة بهؤلاء المطففين ، أنهم صاروا من بلادة الحس ، ومن فقدان الشعور ، لا يخشون الحساب يوم القيامة ، ولا يخافون العذاب الشديد الذي سينزل بهم ، يوم يقوم الناس من قبورهم استجابة لأمر رب العالمين ، حيث يتلقون جزاءه العادل ، وحكمه النافذ.
ووصف ـ سبحانه ـ اليوم بالعظم. باعتبار عظم ما يقع فيه من أهوال.
وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بدل مما قبله. واللام في قوله (لِرَبِ)
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧١٩.